تواصلا مع الاستاذين الطرابلسي والهوني


تفاجئت بعد عودتي من سفرة دامت أياما، انقطعت خلالها عن التواصل مع الانترنت، بوجود ردين غاية العنف اللفظي والتجريح الشخصي، على مقال كنت علقت فيه على بيان الليبراليين العرب الأخير، الداعي إلى إنشاء محكمة دولية خاصة بالإرهاب الإسلامي، ويهمني بعد الاعتذار لقراء إيلاف الغراء عن التأخير، وضع النقاط التوضيحية التالية على مائدة الأستاذين إحسان الطرابلسي ومحمد عبد المطلب الهوني، راجيا منهما – ومن غيرهما- التركيز في المرات القادمة على ما يمكن أن يتقدم بالنقاش الموضوعي الهادئ والرزين إلى الأمام، لا إغراقه في خضم التفتيش في النوايا والتنقيب عن صلات شخصية مفتعلة على طريقة أجهزة الاستخبارات العربية البائسة.
ولتكن بداية مع رد الاستاذ الطرابلسي، وإليه أقول ما يلي:
1-إن كنت "غنوشيا" مثلما زعمت، فما الذي يدفعي إلى التخفي والتستر. حركة النهضة الإسلامية في تونس، حركة سياسية كبيرة تضم عشرات الآلاف من الأعضاء، وتعد حسب كافة العارفين بالشأن التونسي، القوة السياسية الثانية في البلاد بعد الحزب الحاكم، والانتماء إليها يقوي ولا يضعف، كما أنني شخصيا مقيم في بلد ديمقراطي حر يكفل لي حق الانتماء لأي تنظيم سياسي أو فكري أريد..دعك استاذ حسان من دور شارلوك هولمز، واترك عنك الولع بالقيل والقال، وركز على الرد على الأفكار، ولا تقع فريسة نظرية المؤامرة، التي يفترض أن الفكر الليبرالي العربي جاء لمحاربتها، والاستعاضة عنها بالتأمل العقلاني الحر في الآراء والأفكار.
2-لم أكن أحسب أن الليبراليين العرب، قد تحولوا إلى تنظيم سياسي حديدي، يملك الاستاذ الطرابلسي ومن يرضى عنهم، تحديد المنتمين إليه حقا والمنتمين إليه زيفا. كنت أحسب – وهذا ما سبق لي أن وضحته في مقال نشرته إيلاف من قبل تحت عنوان "الليبراليون العرب أو الليبرالية كما أفهمها"- أنني أحد المساهمين من خلال الجهد الفكري والسياسي الذي أبذله، في بناء وتطوير التيار الليبرالي العربي، وما كنت أظن أنه وقع تحت وصاية فئة أو جماعة تبين الخبيث من الطيب والمزيف من الحقيقي، خصوصا وأن أحد رواد هذا التيار، وهو الدكتور شاكر النابلسي، قد وضح في أكثر من مناسبة، هذه الفكرة، من خلال تأكيده على أن الليبراليين العرب ليسوا تنظيما ولا حزبا، إنما هم تيار مفتوح يضم أطيافا عدة.
3-إن انتماءاتي الفكرية أوالسياسية القادمة، لا يمكن أن تكون فضيحة أعمل على سترها، أو عارا اجتهد لإخفائه، وهب يا استاذ حسان أنني كنت إسلاميا أو "إسلامويا" كما تقول، فهذا الأمر – إن صح- يحسب لي لا علي، ذلك أنني امتلكت القدرة والشجاعة الكافيتين لمراجعة أفكاري وتصحيح الخاطئ منها وتطويرها..كذلك كان عدد كبير من رموز الليبرالية العربية اليوم، شيوعيون سابقون وقوميون سابقون وليبراليون سابقون (ذلك أن الليبرالية الجديدة مختلفة في عدة نقاط عن الليبرالية القديمة).
4-لما قرأت بيان الدكتور النابلسي وصحبه، لم أكن أظن أنه مصيدة لأمثالي من الليبراليين المزيفين. كنت أظن أنه ورقة عمل مطروحة للنقاش، وأنه من حق الجميع أن يقبلها أو يرفضها، وأن يوقع عليها أو يتحفظ على ذلك، وأن يبدي ملاحظات بصددها، أو يظهر تأييدا مطلقا لها..ما كنت أعتقد أن في الأمر امتحانا لتبين الغث من السمين والمخلص من الآثم، على شاكلة ما كان الاكليروس الكاثوليك يفعلون في مواجهة جماعات الهرطقة، وعلى نحو ما تمارس بعض الجماعات الإيديولوجية المتطرفة، إسلامية وغير إسلامية، في تمحيص حقيقة الولاء عند أتباعها.
5-إن خلافي مع حركة النهضة، وخصوصا مع رئيسها الشيخ راشد الغنوشي، معروف لكل من يتابع السجال السياسي والفكري الدائر في الساحة التونسية..ولقد ضمنت نقدي للحركة الإسلامية التونسية وزعيمها، في أحد كتبي الذي صدر في السنوات الأخيرة بعنوان "الخيار الوحيد..نحو تونس ديمقراطية"، غير أنني أفرق تماما – ومن منطلق خلفيتي الليبرالية المكتسبة- بين الخلاف الفكري والسياسي، وبين الحقد الأعمى الذي يجعل الغاية تبرر الوسيلة، والذي يفقد المخاصم كل قدرة على التحليل الموضوعي، ويدفعه إلى الشعاراتية العمياء، والفجر في الخصومة.
6-أنا لا أعلم يا أستاذ حسان أن الصحيفة التي أشرت إليها تلميحا، صحيفة ممولة من قبل بن لادن، وليس لدي القدرة على معرفة ذلك للأسف، ولعل السلطات البريطانية نفسها التي رخصت لهذه الصحيفة لا تملك القدرة على ذلك أيضا..ولو كان مجرد نشر مقالات في صحيفة لا تروق توجهاتها لبعضنا، تقود إلى حبل المشنقة، لاقتيد نصف الكتاب والمثقفين العرب إلى المقاصل ظلما وعدوانا..وأما مسارعتك إلى اتهام قناة "العفو" الفضائية بأنها ستكون ممولة من قبل الشيخ الغنوشي أو غيره، دون دليل يطمئن أو حجة بينة، غير ولعك بالظن والريبة، فلا أظنه يليق برجل يزعم أنه يدافع عن سلطة القانون وقيم الحرية والعدالة والديمقراطية.
7-وأخيرا فإنني أؤكد مرة أخرى، على حقي في الاعتقاد بأن الأسلوب الأمثل لمعالجة الظاهرة الإرهابية والحد من تأثير فتاوى العنف والإرهاب، هو إشاعة مبادئ الحرية والمدنية في المجتمعات العربية والإسلامية، وإقامة أنظمة ديمقراطية تتيح المجال في العمل السياسي السلمي والقانوني، أمام كافة التيارات الفكرية والايديولوجية العربية، بما في ذلك التيار الإسلامي المعتدل.. واعتقادي هذا مستمد من ايماني بأن عنف الآلة الأمنية سيظل قاصرا، وأن حروبا مقدسة بإسم الليبرالية ضد أعدائها، لن يزيد الواقع العربي إلا تأزيما، وسيقوي من حظوظ الكراهية على حساب التسامح، ومن حظوظ العنف والعنف المضاد على حساب التواصل والتعايش بين مختلف الحساسيات والتيارات.
أما بالنسبة للأستاذ الهوني، فإنني أجمل ردي على تساؤلاته وانتقاداته في النقاط التالية:
1-لقد اتهمتني بعدم قراءة البيان جيدا، وأنا أقدر أنك لم تفهم ملاحظاتي عليه جيدا، فالتحريض على الإرهاب يدخل ضمن جريمة الإرهاب المادي. أنا رجل قانون في المقام الأول، وأعلم جيدا أن سائر المنظومات القانونية، بما في ذلك المنظومة القانونية الدولية، تعتبر التحريض على القتل جريمة يعاقب عليها التشريع الجنائي، تماما كما القتل المادي، ولهذا فإن المحكمة الجنائية الدولية التي يوجد مقرها في لاهاي، مختصة تماما بالنظر في قضايا التحريض على الإرهاب، تماما مثلما هي مختصة في قضايا الإرهاب المادي ذاتها.
2-اللبس الذي تحدثت عنه في فهم البيان لا وجود له، فلقد قصدت تماما ما قلت، بناء على رأيي أن الجماعات المتورطة في ممارسة الإرهاب، والتي تحركها آراء فقهية شاذة وفتاوى، ما كنت لتستقطب أتباعها أو تنجح في تجنيد مقاتليها، لولا توفر ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية ملائمة، جوهرها غبن وظلم وقهر ويأس وغمامة سوداء تخيم على رؤوس آلاف العاطلين عن العمل والفقراء والمعدمين والمهمشين على كافة الأصعدة.
3-وأنا أتخيل تماما تحقق الديمقراطية في مجتمع توجد فيه مؤسسات للفتوى، وهناك آلاف الآراء والمراجع والدراسات والمقالات التي كتبت، لتؤكد على امكانية ذلك. مؤسسة الفتوى ليست واحدة، بل هي في واقع الأمر مؤسسات، وكثير منها يقر حكم الشعب ويدعو له، وواجبنا أن ندعم التوجه السلمي والديمقراطي داخل الفكر والفقه الإسلامي، لا الزعم باستحالة ذلك، وبأنه لا مجال إلا لمنطق الحرب والإفناء والإقصاء..أنا من الذين يؤمنون بأنه لا يمكن تحييد الدين من المعادلة العربية الإسلامية، ولهذا من الأفضل بدل إضاعة الجهد والوقت في السير في الطرق الخاطئة، التعاون مع الاتجاهات الدينية المعتدلة لتوفير مناخ ملائم لسلطة الشعب وإقامة النظام الديمقراطي.
4-إن سؤالك عما إذا كان الحكام العرب سيكفون عن الجور إذا لم يصدر البيان، لا يتفق مع حقيقة ما يتوقعه الموقعون على هذا البيان من نتائج ايجابية وفعالة. إن البيان وإن لم يكن وسيلة فتاكة فاعلة في حينها، إلا أنه لا يمكن التقليل من شأنه كوسيلة سياسية وفكرية هامة، فإذا كان المنتظر من هذا البيان أن يفعل فعله لصالح الأفكار التي آمن بها الموقعون عليه، وخصوصا الأهداف المعلنة له، فلا شك أنه من حق المحلل القارئ أن يضع له نتائج أخرى من نفس الأهمية والفاعلية في الاتجاه المعاكس. البيان إذا وسيلة مهمة، ولا يمكننا التعامل معه بهذه الخفة التي بدت واضحة في سؤالك.
5-القول نفسه أيضا، يجري على الصلة المشار إليها للبيان مع السياسة الأمريكية، فالسياسة الأمريكية في المنطقة العربية الإسلامية لا يمكن أن لا تضع في حسبانها آراء نخب هذه المنطقة، وخصوصا ترتيب هذه النخب للأولويات المستحقة على منطقتهم. ثم من قال أن موقعي البيان، ينتظرون الديمقراطية السحرية المنزلة، فما كان من قول لم يدع إلى أكثر من مقاربة أمريكية أكثر شمولا وفعالية للظاهرة الإرهابية، أحسب أن على الليبراليين العرب أن يبذلوا ما في وسعهم لإقناع الإدارة الأمريكية بأهمية تبنيها. وإنني في ختام هذه النقطة، أود التأكيد على أنني لست من الذي يخجلون من العمل على تسخير كافة القدرات الممكنة لمحاربة الاستبداد والمستبدين، بما في ذلك شرح قضية الديمقراطية العربية للمجتمع الدولي وقواه النافذة وطلب المساعدة. أطلب المساعدة جائز في الشر، غير ذلك في الخير.
6-إن إشارة إلى خصومة لي مع النظام التونسي لم تكن برأيي موفقة، إذ لست أملك خصومة شخصية مع أي نظام عربي، بما في ذلك النظام التونسي، إنما الرأي عندي أن التقييم يجب أن يستند إلى عناصر موضوعية، كلها تؤكد أنه لا أمل لشعوب المنطقة مع وجود أنظمة تعمل على هذه الشاكلة. وأما حديثك عن الأستاذ العفيف الأخضر ومواطنته في جمهورية الفكر وعدم دعوته إلى قتل أحد أو مصادرة رأيه، فتجافيه أدلة كثيرة، ومواقف عديدة، بدا في الأستاذ الأخضر مؤيدا مطلقا لإهانة الإسلاميين ومصادرة حقهم في التعبير والعمل السياسي السلمي وتحريض الأنظمة على سجنهم وتشريدهم وتعذيبهم، بحجة أنهم ملة واحدة وطائفة واحدة ونوع واحد، كلهم عنيفون وإرهابيون وقتلة ومجرمون، ولا يمكن أن يكون بينهم ديمقراطي أو معتدل، ولك أن ترجع إلى المقالات التي كتبها هذا المفكر، وستجد أنها لا تقل في حقدها ومقتها وعنفها اللفظي والأدبي، عن مقالات بعض الإسلاميين المتشددين وآرئهم حيال العلمانيين والليبراليين.
7-وبالنسبة لزعمك أنني أقلب الحقائق حين نعت البيان بأنه يضع الاسلاميين جميعا في بوتقة واحدة، فاعتقد أنه زعم خاطئ، إذ لما يوضع القرضاوي والترابي والغنوشي وهم رموز الاعتدال داخل الحركة الإسلامية، مع الظواهري وبن لادن وغيرهم، وهم من رموز التشدد والتطرف والإرهاب، في كفة واحدة وقفص واحد كما كتبت أنت، فمن بقي من الإسلاميين يا ترى؟ هؤلاء يا أستاذ الهوني ليسوا مجرد أشخاص، بل حركات وجماعات، وعندما تقول القرضاوي، فإنك لا تشير إلى شيخ جاوز السبعين يقيم في الدوحة، بل إلى أحزاب وجماعات تتبنى آراء هذا الرجل وتستمد توجهاتها من أفكاره وتعده أبا روحيا لها. ومثلما أشرت شخصيا إلى مرجع الفتوى التي قال من خلالها الشيخ القرضاوي أن حكم الشورى في الإسلام هو الحكم الديمقراطي، فقد كان الحري بك أن تذكر مرجع الفتوى التي نسبتها للشيخ، والتي يدعو فيها إلى قتل العلمانيين، الذين هم نصف العرب مثلما وصفت، ولست متؤكدا شخصيا من أنهم كذلك.
وختاما فلكم كنت أود أن لا تهمز في قناة الصحبة، فصحبتي جارية ليست لبعض الإسلاميين فقط، إنما لكثير من الليبراليين والشيوعيين والقوميين، وأرى أن في قلبي وعقلي متسع لكل يد ممدودة بالسلم، داعية للتعايش بين بني البشر، في بلدي وفي بلاد العالم جمعاء، وأحسب أن الإسلاميين كغيرهم، منهم من يصوب مسدسا ومنهم من يمنح زهرة، ولعلنا بسياسة اليد الممدودة نجعل عبق الزهور أقوى من طلقات المسدسات وأفتك.

كاتب تونسي، مدير مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي - لاهاي

مقالات ذات صلة ببيان الليبراليين العرب:

نص البيان الذي وجهه اليبراليون العرب إلى الأمم المتحدة

*


3000 توقيع على البيان الأممي ضد الارهاب

*

محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

البيان الفضيحة!

بل كله عيب أيها السيد المصري!

آل الشيخ يرد على منتقديه: اعترفوا بالخطأ

*

إبراهيم المصري
ليس عيباً.. وإنما ضرورة

حمل بطيختين بيدٍ واحدة

*

د. خالد شوكات
القرضاوي وبن لادن لا يوضعان في سلة واحدة

*

عزيز الحاج
البيان اللبرالي وخلط الأوراق

*


د. إحسان الطرابلسي
الغنوشية المتستّرة بثياب الليبرالية تفضحُ نفسها!

د. رجاء بن سلامة
لماذا وقّعت البيان المجرّم لفتاوى الإرهاب

تقول له انظر أمامك.. فينظر إلى يدك

*

محمّد عبد المطّلب الهوني
فضيحة آل الشّيخ مردودة عليه

عودة إلى بيان اللّيبراليّين العرب: ردا على آل الشيخ

القرضاويّ وبن لادن يوضعان في قفص واحد

*

د. شاكر النابلسي

لا أب ولا أبوات لـ البيان الأممي ضد الارهاب!

لماذا كان البيان الأممي ضد الارهاب ولماذا جاء الآن؟

*

نصر المجالي
بيان فيه تحريض وتنوير

*

علي ابراهيم محمد
ما حاجتنا لبيان متوازن

*

د. إحسان الطرابلسي
بيان الليبراليين الجُدد وامتحان الصدقية

*

إنشقاق في معسكر الليبراليين العرب