لماذا أصبحت كتب التاريخ تؤرق بعض المشايخ، وتقض مضاجعهم؟ لماذا أصبحت هذه الكتب ألد أعداء من استطابوا حياة الكهوف والأنفاق، بعدما كانت خير عكاكيزهم، وفخر ثقافتهم وعلومهم، يتباهون بسجلاتها (العظيمة) وسير أبطالها (الجليلة)، يكذبون بها على الناس، والبسطاء منهم بشكل خاص، يضللونهم، ويخدعونهم، ويزيّنون لهم حياة الجهل والخرافة والإقامة في السراديب.
لماذا أصبحت هذه الكتب التي خطها كبار العلماء الذين لا ينال الشك من قدراتهم، وعلومهم، وقوة إيمانهم، وحسن سلوكهم، وتدينهم، وتقواهم، لماذا أصبحت بعبعا ترعب هؤلاء المشايخ الذين يقفون سدا منيعا في وجه تنوّر مجتمعاتهم، وتقدمها، وتلمسها للحقائق الموضوعية التاريخية المجردة؟
لماذا يريد هؤلاء أن يحتكروا الدين والتاريخ، ويجهّلوا الناس، ويضللونهم، ويتهمونهم بعدم القدرة على فهم الدين، وفهم التاريخ، وفهم سلوك خلفاء المسلمين؟ وأنهم- أي الناس- لا بد لهم من شيخ، يعلمهم ويشرح لهم ويفسر لهم كي لا يضلوا الفهم والسبيل! فإذا كان الأمر كذلك، والإسلام دين عالمي موجه لكل أمم الأرض وشعوبها على اختلاف أعراقهم ولغاتهم، فإنه ينبغي على كل راغب في الإسلام- إن كان في أوروبا أو أمريكا أو استراليا أو غيرها من البلاد البعيدة- أن يتكبد عناء طلب واحد من هؤلاء، يسافر له، ليشرح ويفسر، ويعلمه الدين، ولكن على طريقته، لأن في الإسلام آراء ومذهب شتى. وكأنه ليس بمقدور الإنسان العاقل المدرك أن يستخدم عقله، ويقرأ، ويفهم. متناسين أنه دين الفطرة، وعامة الناس، لا دين الخاصة والنخبة. وإن الناس قد فهموه حين دعا الرسول إليه، رغم قصور أدواتهم وأميتهم. لقد أصبح هؤلاء المشايخ ينظرون لهذه الكتب، وكأنها جهاز لكشف الكذب، يخشاه منهم، المحنطون، والمتعصرنون. الكذب الذي مارسوه قرونا طويلة على لحى هذه الشعوب الأمية، فزادوها جهلا وخرافة وتخلفا وأمية.
في الحلقة الأخيرة من برنامج (الاتجاه المعاكس 30 /11 2004 ) لم يكن غريبا أن ينحاز معدّ ومدير البرنامج بشكل سافر، مع طرف ضد آخر، فقد عوّد المشاهدين على ذلك، وأصبح هذا السلوك سمة ترخي بظلالها الثقيلة على كل حلقة من حلقات البرنامج. لكن الغريب أن يغضب هذا المدير، بالشكل الذي غضب فيه على خصمه المحاور، وبدلا من أن يرد عليه بموضوعية تقنع المشاهدين، فقد صب جام غضبه على اثنين من الكتاب المبدعين، لا ناقة لهم في البرنامج ولا بعير، فهم ليسوا من ضيوف الحلقة، ولا من المتحدثين عبر الهاتف، وربما أحجموا منذ زمن عن متابعة برنامجه ذاك، مكيلا لهم، بكل (شجاعة) الكلمات والصفات والاتهامات التي لا تنسجم أبدا مع لغة الحوار، ولا تخلو من مظاهر العداوة، (أرجع بعضهم سبب الغضب إلى عجز الحليف المحاور في الرد على الخصم)، لا لشيء إلا لأنهم قالوا رأيهم في قضايا يعتبرها حكرا على مجموعة من الناس، لا يُسمح لغيرهم بالتطرق إليها أبدا، مهما عززوا آراءهم وأقوالهم بشواهد من التاريخ وأمهات المراجع والكتب المعتمدة رسميا في الكليات الشرعية، والتاريخية. وكأن النص أو البحث، يكتسب قيمته ومصداقيته، من اسم الكاتب، أو من نوع المشروب الذي يتناوله كاتب النص، لا من الحقائق التاريخية والموضوعية التي يحتوي عليها..!
والكاتب صاحب (غربلة المقدسات) الذي هاجمه معد برنامج (الاتجاه المعاكس)، لا يكذب ولا ينكر، بل يقر بكل شجاعة وبساطة أنه يشرب (العرق)، ويزيد ذلك إيضاحا، فيقول: إنه(بلدي)، عرق بلدي. أي أنه غير مصنع، لا بطريقة فنية، ولا بأجهزة حديثة، وربما يكون قد دعس العنب بقدميه ابتغاء عصره، إن كان عرق عنب، وليس عرق تين.
ولمن لا يعلم، والكل يعلم، أن الخمر من مشروبات أهل الجنة، مع الفارق الكبير طبعا ما بين خمر الجنة وخمر أهل الأرض، ولكن ما أريد أن أقوله أن الإنسان مسؤول عن تصرفاته وأعماله أمام الله، وقد يكون هذا الكاتب قد ظن أنه لن يدخل الجنة، فتبادر له أن يستمتع بدنياه، وكان الأحرى بمعد (الاتجاه المعاكس) بدلا من مهاجمته، والتحامل عليه، لإدخاله الجنة بالعافية، كان الأحرى به أن يطلب له المغفرة، ويغرس فيه بذور الأمل، لأن الله غفور رحيم، ويذكره بالحديث الشريف الذي ذكره صاحبا تفسير الجلالين في توضيح ما جاء في الآية (111) من سورة النساء- هامش التفسير: (وروي في الصحيحين عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لم يشرك بالله شيئا من أمتك دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق. قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق. قلت وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر؟ قال وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر. وفي بعض الروايات- والكلام ما زال للجلالين- إن قائل ذلك إنما هو أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنه عليه الصلاة والسلام قال في الثالثة: وإن سرق وإن زنى وإن شرب الخمر رغم أنف أبي ذر/ تفسير ابن كثير ج2 /187).
إن كاتب (غربلة المقدسات) فقير، وغير قادر على شراء مشروب أكثر جودة، وهو لا يرتشي، ولا يقبض من السفارات، لا العربية، ولا الأجنبية، وإلا لظهرت عليه نعمة المال، أو لكان على الأقل استبدل العرق البلدي بويسكي (دمبل أو بلاك). لكن ما يمتاز به هذا الكاتب، أنه لا يكذب ولا يخادع كما يفعل الكثيرون غيره من المنافقين الذين يبيضون على الناس، ويدّعون التقوى والتدين والصلاح، ويشربون ليس العرق فقط، بل السخام أيضا و (بكعب الكندرة)، ولكن ليس أمام الناس، بل خفية عنهم، بحيث لا يراهم إلا الله سبحانه وتعالى، وبعض المقربين المشاركين في الحفل. ولعل هؤلاء، بعكس كاتبنا، قد حفظوا وطبقوا وصية أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان لولده أمير المؤمنين اللاحق يزيد بن معاوية. حين وعظه، فقال:
أنصب نهارا في طلاب العلا ------- واصبر علـى هجر الحبيب القريب
حتى إذا الليل أتى بالدجـى ------- واكتحلت بالغمـض عيـن الرقيب
فباشر اللـيـل بما تشتهي ------- فإنمـا اللـيـل نـهـار الأريـب
كم فاسـق تحسبه ناسـكا ------- قد باشـر اللـيـل بأمر عجـيب
غطى عليه اللـيـل أستاره ------- فبات في أمن وعـيـش خصيـب (البداية والنهاية لابن كثير)
وأمير المؤمنين يزيد بن معاوية، كما لا يخفى على أحد، كما قال المسعودي: (كان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب- وكان له قرد يكنى بأبي قيس يحضره مجلس منادمته، ويطرح له متكئا- شملَ الناسَ جورُ يزيد وعماله، وعمهم ظلمه، وما ظهر من فسقه، وما أظهر من شرب الخمور، وسيره سيرة فرعون، بل كان فرعون أعدل منه في رعيته، وأنصف منه لخاصته وعامته- مروج الذهب للمسعودي)،أو كما قال ابن كثير: (وقد ترك بعض الصلوات في بعض الأوقات، وأماتها في غالب الأوقات – البداية والنهاية). أو كما جاء في تاريخ اليعقوبي: (يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبغات، ويدمن الشراب ويمشي على الدفوف – تاريخ اليعقوبي)، وهو القائل يوم موقعة الحرة التي أُحلت للجند ثلاثة أيام :
ليت أشياخي ببدر شهدوا __________ جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القوم من سادتكم __________ وعدلنا ميـل بــدر فاعتدل
ولعت هاشـم بالملك فلا __________ خبر جـاء ولا وحي نــزل (تاريخ الطبري)
أما الكاتب الثاني الذي هاجمه معد برنامج (الاتجاه المعاكس) فهو الكاتب التلفزيوني الأشهر (أسامة أنور عكاشة)، لا لشيء إلا لأنه نقل كلاما قرأه في الكتب المعتمدة، ولم يختلقه من عنده، عن (عمرو بن العاص)، وكلامه ذاك، لم يعجب معد البرنامج ولم يعجب بعض المشايخ، ولا المطبلين لهم، مع أن ناقل الكفر ليس بكافر، على فرض أن ما قاله الكاتب أسامة كفرا. فقد جاء كلامه هذا في أمهات الكتب الدينية والتاريخية، ومنها السيرة النبوية لعلي بن برهان الدين الحلبي، المسماة (سيرة الأمين المأمون، إنسان العيون) المعروفة اختصارا ب(السيرة الحلبية) وقد جاء فيها، في معرض الحديث عن نكاح الاستبضاع، ونكاح الجمع ما يلي: (فنكاح البغايا قسمان، وحينئذ يحتمل أن تكون أم عمرو بن العاص رضي الله عنه من القسم الثاني من نكاح البغايا، فإنه يقال أنه وطئها أربعة: وهم العاص، وأبو لهب، وأمية بن خلف،وأبو سفيان بن حرب، وادعى كلهم عمرا فألحقته بالعاص، وقيل لها لِمَ اخترتِ العاص؟ قالت: لأته كان ينفق على بناتي، ويحتمل أن يكون من القسم الأول، ويدل عليه ما قيل أنه أُلحق بالعاص لغلبة شبهه عليه، وكان عمرو يُعير بذلك، عيّره بذلك عليّ وعثمان والحسن وعمار بن ياسر وغيرهم من الصحابة رضي تعالى عنهم – السيرة الحلبية ج1 ص70 ). علما أن عمرو بن العاص ليس من العشرة المبشرين بالجنة. ثم إن الشيخ الأزهري نفسه ضيف الحلقة إياها (الاتجاه المعاكس) قال بعظمة لسانه أن عمرو بن العاص أمَّ المسلمين(صلى بهم) وهو جنب. وشكاه لرسول الله أحد عساكره لفعلته الشنيعة تلك. علما أيضا أن هناك من فعل أشد وأكبر من فعلة عمرو بن العاص بكثير، وهو أمير المؤمنين الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
يروي الأستاذ نبيل فياض في كتابه (يوم انحدر الجمل من السقيفة) استنادا إلى تاريخ ابن عساكر أن (النوار جارية الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكانت حظية عنده، وهي التي أمرها أن تصلي بالناس. وقد سكر، وجاء المؤذن فآذنه بالصلاة. وحلف أن تفعل ، فخرجت متلثمة، عليها بعض ثيابه، فصلت بالناس ورجعت) واستنادا إلى تراجم النساء، تحقيق سكينة الشهابي ص (411 -412 )، وإلى الأغاني للأصبهاني (وذكرت جارية أنه واقعها ذات يوم وهو سكران، فلما تنحى عنها، آذنه المؤذن بالصلاة، فحلف ألا يصلي بالناس غيرها، فخرجت متلثمة، فصلت بالناس)
وأمير المؤمنين الوليد بن يزيد بن عبد الملك هو الذي نصب القرآن الكريم نيشانا، ورماه بالقوس والنشاب، فمزقه، وأنشد قائلا:
أتوعد كــل جبـار عنيد ------ فهأنذاك جبـار عنيــد
إذا ما جئت ربك يوم حشر ----- فقل يا رب خرقني الوليد (مروج الذهب للمسعودي)
وهو القائل أيضا:
تلعّب بالخلافة هاشـمي ----- بلا وحي أتاه ولا كتـاب (مروج الذهب للمسعودي)
أما بخصوص بعض الذين قيل إنهم مبشرون بالجنة، ومنهم: الزبير بن العوام، وهو ابن عمة الرسول، وطلحة بن عبيد الله، وعائشة أم المؤمنين، وعلي بن أبي طالب. فإن هؤلاء انقسموا في حرب الجمل فريقين، وتقاتلوا حتى الموت، وقتل بسببهم ألوف الرجال، ومن بين القتلى قادة أحد الفريقين، طلحة والزبير، المبشران بالجنة كما سلف. والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت أحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا أن الله يحب المقسطين- الحجرات 9 )، لكنهم لم يجدوا من يُصلح بينهما، أو أن الفريق المصلح كان من الضعف والهزال بحيث لم يكن له أي وزن أو تأثير. والذين وقفوا على الحياد لابد أنهم تساءلوا أيُ الفريقين على حق؟ وأيٌ منهم على خطأ؟ ولا نقول على باطل، والرسول يأمر بمعاقبة المسلم الذي يقتل أخيه المسلم أو يقاتله بغير ذنب. وهؤلاء قاتلوا، وقتلوا بعضهم بعضا. فهل هناك مذنب وبريء بينهم؟ أم أن هؤلاء اجتهدوا كما يحلو للبعض أن يقول، فنال المخطئ منهم أجرا، والمصيب أجرين؟

[email protected]