وأعني بالأماكن المقدسة، دور العبادة التي يُذكر فيها اسم الله، ويؤدي فيها الناس مراسم التعبد والصلاة والطاعة والخضوع لله سبحانه وتعالى، يعبرون فيها عن محبتهم وولائهم لعظمته ورحمته، ومن هذه الدور، المساجد، وهي مقدسة في رأي عموم الفقهاء، لا يختلف في ذلك اثنان. فهل هي مقدسة في ممارسات العوام وبعض رجال الدين؟ وما هو مفهوم التقديس في نظرهم؟ بمعنى ماذا يحلُّ ويحرم فيها؟ فمثلا هل يحل الاعتداء فيها على الناس ، وقتلهم؟ كما حدث مؤخرا في جامع أبي ذر الغفاري في مدينة حمص السورية حيث تعاون مجموعة من الرجال المتواجدين في المسجد، على قتل موظف حكومي داخل ذلك المسجد، وإخفاء جثته. قيل عن أولئك القتلة أنهم كانوا يؤدون الصلاة والطاعة والتقرب لله تعالى! وقيل: إنهم كانوا يتلقون دروسا دينية اعتادوا أن يتلقوها بشكل دوري في مثل ذلك الوقت الذي ارتكبوا فيه جريمتهم النكراء. فهل كانت هذه الجريمة جريمة شرف؟ أم دفاع عن النفس؟ أم للحؤول دون سرقة المسجد؟ أم بداعي سرقته؟ أم أنها خطأ غير مقصود؟ بمعنى هل هي مجرد جريمة عادية لا دوافع، ولا أبعاد لها، ولا تحتمل التأويلات، كما صرح بذلك السيد زياد الدين الأيوبي وزير الأوقاف السوري حين قال: (ما جرى في مدينة حمص يجب ألا يعطى أي بعد آخر، وألا تحمل المسألة أكثر مما هي عليه، وهي جريمة يمكن أن تحدث في أي مكان، لكن هناك من يريد أن يتصيد في الماء العكر- ولكن الإنسان قد يخطىء في الكنيسة والكنيس والجامع وفي الشارع والمزرعة أو في أي مكان آخر- نشرة كلنا شركاء في الوطن 23/12/2004).
أولا: هل القول أن هؤلاء القتلة مغسلو الأدمغة، ومؤدلجون، ويعملون لفرض آرائهم وخطابهم بالقوة المسلحة، وإرهاب الناس، هو تصيد في الماء العكر؟
ثانيا: هل يمكن أن نسمي ما حدث: (خطأ)؟ أم أنه جريمة نكراء عن سابق تصور وتصميم وإعداد، بكل ما تحتمل الكلمة من معنى؟
ثالثا: إن الشارع والمزرعة ليسا من بيوت الله، ويمكن أن يحتويا على ما هب ودب من الناس، من أوباش ولصوص ومجرمين وعديمي الأخلاق، إلى أفاضل ومحترمين وأتقياء وشرفاء. بينما يفترض بمن يدخل الكنيسة أو المسجد، أن يكون قد دخلهما للتطهر، وأداء فريضة لله، ومحبة بالله، لا لمعصيته، وارتكاب الجرائم في بيته تعالى. وبالتالي فالفرق واضح بين الشوارع والمزارع، وبين بيوت الله.
رابعا: حتى في الشارع عندما يحاول شخص ما الاعتداء على شخص آخر، يحاول الناس منعه، أو يمنعونه بالفعل من إتمام عدوانه، فلماذا لم يحاول أحد من المتواجدين في المسجد آنذاك، منع المجرم عن جريمته، أو الحؤول بينه وبين الضحية؟ أو على الأقل إسعاف المعتدى عليه، بدلا من التستر على المجرم والجريمة؟
خامسا: ألم يقل رسول الله حين فتح مكة التي عاداه وظلمه غالبية أهلها، وسادتها: ومن دخل المسجد فهو آمن، بعد قوله من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. علما أن أبا سفيان كان من ألد أعداء الرسول الذي دعاه للإسلام بعد فتح مكة قائلا (أي النبي): (ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال أبو سفيان: بأبي أنت وأمي ... أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئا!!- السيرة الهشامية، دار صادر 1/9). ومع ذلك لم يأمر النبي بضرب عنقه بل أكرمه وقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. وجعله من المؤلفة قلوبهم، وخصص له نصيبا جاريا من أموال المسلمين، لولا أن ألغاه عمر. فلماذا لم يكن ذلك الموظف آمنا في المسجد، بل قتل فيه؟
إن بعض المسيسين اللاهثين وراء السلطة والمال ينتحلون صفة رجال الدين، مستغلين طيبة الناس، وبساطتهم، وإيمانهم، والتربة الخصبة لدى بعض الجهلة المغامرين المكبوتين، لبث سمومهم، وترغيبهم وترهيبهم وتجهيلهم، وحقنهم بالأوهام والدجل والخرافات، بغية وصول هؤلاء المسيسين لمآربهم، وتنفيذ مخططاتهم، مقتدين ببعض الأحداث والشخصيات التاريخية، التي هتكت حرمة بيوت الله من قبل، متخذين من تصرفات أولئك، وعدوانهم، سندا لهم في خطابهم السياسي الديني التحريضي.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تهتك فيها حرمة بيوت الله في البلاد العربية والإسلامية، فحالات تفجير المساجد بمصليها ما زالت ماثلة للعيان، وتتكرر، في كل من الباكستان والعراق، وقد هتكت من قبل حرمة ما هو أهم من مسجد. هُتكت حرمة أقدس أقداس المسلمين، الكعبة المشرفة. هتكها أبو طاهر زعيم القرامطة الذي وافى يوم التروية ركب الحجيج الذين سيرهم الخليفة العباسي المقتدر، ف(قتل الحجيج بالمسجد الحرام، وفي جوف الكعبة، وألقى القتلى في بئر زمزم، وضرب الحجر الأسود بدبوسه فكسره، ثم اقتلعه وأخذه معه، وبقي عندهم أكثر من عشرين سنة، وقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها، وشققها بين أصحابه، وهدم قبة زمزم- السيرة الحلبية- دار المعرفة 1/278) ومثله فعل مسلم بن قتيبة قائد جيش أمير المؤمنين يزيد بن معاوية الذي رخّص له أن يفعل ما فعل، وباسم الدين، (في وقعة الحرة المشهورة، التي كادت أن تبيد أهل المدينة عن آخرهم، حيث نهبت المدينة وافتض فيها ألف عذراء، ولم تقم الجماعة ولا الأذان في المسجد النبوي مدة المقاتلة وهي ثلاثة أيام، وجالت الخيل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وراثت بين القبر الشريف والمنبر، واختفت أهل المدينة حتى دخلت الكلاب المسجد وبالت على منبره صلى الله عليه وسلم- السيرة الحلبية- دار المعرفة 1/267-268) كما ضرب الكعبة بالمنجنيق، فأصابها من ناره (أي المنجنيق) ما حرق ثيابها وسقفها (السيرة الحلبية 1/271) وكرر من بعده الشيء نفسه، وباسم الدين أيضا، الحجاج بن يوسف الثقفي قائد جيش أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان الذي رمى الكعبة بالمنجنيق أيضا (ولا زال الحجاج يحضهم على الرمي بالمنجنيق، ولم تزل الكعبة ترمى بالمنجنيق حتى هدمت وحرقت أستارها حتى صارت كالفحم- السيرة الحلبية 1/290). وقد يكون ما فعله الحجاج بعد ذلك، بأمر أمير المؤمنين، شيئا بسيطا مقارنة بجريمته تلك، إذ قتل عبد الله بن الزبير، داخل الكعبة، وقد استجار بها، وقطع رأسه، وأرسله لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وصلب جثته، وأبقاها مصلوبة لأكثر من شهر، رغم توسلات أمه العجوز المريضة لإنزاله وتكفينه ودفنه، ولم يشفع لابن الزبير أنه أول مولود ولد في الإسلام أي بالمدينة من أولاد المهاجرين، وأن رسول الله حنكه حين ولد، وأنه ابن حواري رسول الله، وابن ذات الناطقين أسماء بنت أبي بكر خليفة رسول الله، وصفيه، وأخت عائشة أم المؤمنين، ولم يكتف بذلك بل قتل أيضا عبد الله بن صفوان (وكان سيدا شريفا مطاعا حليما كريما، قُتل وهو متعلق بأستار الكعبة. وحينئذ يشكل كونه حرما آمنا- السيرة الحلبية 1/287).
لا بد، منعا لاختلاط الأمور، وإجلاء للحقيقة، وتوضيحا للخير من الشر، لا بد من حركة نقدية للتاريخ، شجاعة جسورة، يرفع لواءها ويقودها علماء المسلمين المتنورين المخلصين، لا المدعين المغرضين، للتعريف بالصالح والطالح من خلفاء المسلمين وأمراء المؤمنين، وفضح سلوك وأفعال المسيء منهم، أو الثناء على الفاضل فيهم، لتكون سلاحا رادعا ضد الحكام المنحرفين، أو حافزا للخيّرين، كي تقوا الله في الناس، ويتأكدوا أن التاريخ لن ينساهم أو يرحمهم أو يتستر عليهم، بل سيجزيهم أو سيدينهم بأعلى صوته، وأوضح حروفه، بما يستحقون، إن خيرا وإن شرا.
إن الساكت عن الحق شيطان أخرس، ومن يخدع الناس لا يريد الخير لهم، بل هو ألد أعدائهم. وعلى علماء الدين، والتاريخ، التصدي للواجبات الملقاة على عاتقهم، بكل شجاعة وإدراك لمسؤولياتهم نحو شعوبهم، والتعاطف مع قضاياهم، وتبصيرهم بالصح والخطأ، وأحوال من سادهم، من خلفاء وأمراء وقادة، لا تجهيلهم وتضليلهم، وتحويل الأبيض إلى أسود، والأسود إلى أبيض، والتستر على فظائع الحكام السابقين واللاحقين.
[email protected]