التراشق الصحفي الذي حدث بين الكاتب السعودي محمد آل الشيخ وبين السفير الفلسطيني في الرياض كان هو المسيطر على أحاديث الصالونات في السعودية في الآونة الأخيرة . المقال طالب فيه آل الشيخ بفك الارتباط بين العرب و القضية الفلسطينية، والتعامل مع القضية الفلسطينية مثلها مثل أي قضية عربية أخرى، على اعتبار أنها شأناً فلسطينياً في الدرجة الأولى لا عربياً، معللاً ذلك ـ تلميحاً لا تصريحاً ـ بأن القيادة الفلسطينية "تتاجر" بهذه القضية، وتتعمد إبقائها بعيداً عن أي حلول، وتتخذها وسيلة للإثراء منذ شعار"ادفع ريالاً تنقذ عربياً" وحتى الآن .
ورغم رد السفير الفلسطيني، وتصعيده للقضية من قبل السلطة الفلسطينية، إلا أنني أعتقد جازماً أن الكاتب آل الشيخ قد تحدث بلسان الكثير من السعوديين، وبالذات الجيل الجديد، الذي لم يجد في الحلم القومي إلا الفشل الذريع، وعَبَرَ بصدق عن رأيهم في طريقة تعاطي القمة السياسية الفلسطينية مع القضية . حيث يكاد يتفق السعوديون على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم على أن الفساد الذي يضربُ بأطنابه في الجسد السياسي الفلسطيني سببه الرئيس الفساد المالي على وجه الخصوص، الأمر الذي جعلَ من تولي منصباً في "السلطة" طريقاً لا يتوه بصاحبه للوصول إلى الكنز الفلسطيني . أما نحن السعوديون فقد شبعنا تغفيلاً، وشبعنا غباءً، وشبَعَت ذقوننا ضحكاً عليها، منذ خمسين سنة وحتى الآن، والنتيجة لا النخبة المسيطرة على القرار الفلسطيني شبعت من "النهب"، ولا تحقَق ما كانوا يعدونا به من إنقاذ "الإنسان الفلسطيني" من الذل والهوان وتحرير فلسطين. وفي ظني، والحال كما هي عليه، فإن الإنسان الفلسطيني سيبقى على حاله هذه طالما أن أبو عمار ومن يدور في فلكه لا يخفون ولعَهم ولا ولع زوجاتهم وأقاربهم في ابتياع الغالي من الأزياء الأوربية، والتسكع على أرصفة باريس ولندن والساحل اللازوردي، في حين يتضوّرُُ الفلسطينيون في الضفة والقطاع جوعاً فلا يجدوا حتى كسرة الخبز الناشفة .
أعرف تمام المعرفة أن ياسر عرفات لا تستفزه الممارسات الإسرائيلية مثلما تستفزه مثل هذه المقالات، وفي ظني أن تعقيب سفيره في الرياض جاء تلبية لأمر منه، فالمقال صادر من الرياض، والرياض بالنسبة لأبوعمار من أهم مصادر "المصاري" ، إذا لم تكن أهمها على الأطلاق، وأن يتحدث السعوديون هكذا حديث فهذا نذير خطر يجب أن لا يمر مرور الكرام.
غير أن الإنسان السعودي على وجه التحديد، ما زال يتذكر يوم أن أخرج أبو عمار حشود المتظاهرين في شوارع غزة، تضامناً مع صدام في سرقته للكويت، وهم يرددون على رؤوس الأشهاد، ودون أي قدر من الحياء، ناهيك عن الوفاء : "بالكيماوي يا صدام"... وقتها عرفَ السعوديون أنهم منذ " أدفع ريالاً تنقذ عربياً" كانوا في الواقع يزرعون الجود والوفاء في سَبخَةٍ من الأرض لا ينمو فيها زرع ولا يشبعُ منها ضرع . وأنهم طوال كل هذه السنوات كانوا واقعين تحت تأثير مؤامرة دنيئة، وأن عرفات وكل أقطاب سلطته وإدارته هم تجار قضية لا رجال نضال وبطولة .
أما اليوم ، فالذي يجبُ أن يُدركه العرفاتيون، أن ذلك الإنسان "البدوي" المغفل، الساذج، البسيط، الذي كان يرضخ في الماضي للابتزاز، ويخشى من غضب أصحاب القضية، قد تغير .. لقد شب المارد السعودي عن الطوق ، وتجاوز الحُلم، وأول الغيث قطرٌ ثم ينهمر .