يبدو لي أن حكومة الدكتور علاوي راحت تعاني من التردد، وشئ من التخبط في معالجة البؤرة الإرهابية في النجف، والتي تهدد المستقبل العراقي كله. فالبيانات الرسمية تتناقض أحيانا مع الموقف العملي وأحيانا مع الوقائع، كتلك البيانات الصادرة عن كبار المسؤولين في وزارة الداخلية حول استسلام أفراد ميليشيا الصدر وخروجهم من المسجد العلوي. ومؤلم جدا صدور تصريحات كهذه تسئ لحد كبير إلى سمعة الحكومة ومصداقيتها. أما الأخطر فهي مواصلة قبول وساطات جديدة للتفاوض مع الصدر، وهو ما يزيد في قدرة المناورات الصدرية ، الموجهة إيرانيا، لكسب الوقت ولتآكل موقف الحكومة.
لقد فقدت الحكومة ولو مؤقتا مع الأسف أوراقا عديدة لحسم الحملة الصدرية في النجف والمسجد الحيدري. لقد كانت في يد الحكومة أوراق هامة، منها:
1 ـ تحدي السيد مقتدى لوفد المؤتمر الوطني، وإعلانه المتكرر
مع عدد من مساعديه عن عدم التخلي عن جيش المهدي والتصميم على عدم حله ونزع سلاحه. فزعيم الميليشيا الإرهابية الصدرية يضع نفسه ليس فوق الحكومة وحدها، بل وكذلك فوق الشرائح الواسعة من ممثلي الشعب ومن نخبه، بما فيهم الأحزاب الإسلامية نفسها. وقد انعكس موقفه والتردد الحكومي في حسم المعركة وضياع الوقت في وساطات ومباحثات عقيمة، على قطاع واسع من الإعلام الغربي نفسه، فراحت حتى البيبي.بي. سي. مثلا تعتبره [كالفضائيات العربية] زعيم "المعارضة للاحتلال" بدلا من اعتباره زعيما إرهابيا تسيره إيران، وان حربه الجامحة هي على العراقيين، وعلى جهود البناء، وعلى أنابيب النفط، بل وعلى الأكثرية من الشيعة أنفسهم.
2 ـ تفوق القوة العسكرية العراقية المدعومة بالقوة الضاربة الأمريكية، وهو ما كان يمكن الحكومة من حسم المعارك حال فشل جهود وفد المؤتمر الوطني.

3 ـ نفور غالبية أهالي النجف من جرائم جيش المهدي، وخطفه للمدينة وأهلها وللمراقد المقدسة، وتعطش الناس هناك للسلام في أمان وفي جو يسمح لهم بكسب العيش وتوفير مقومات السياحة الدينية. لقد كان على الأخ رئيس الوزراء أن يخاطب الشيعة وكل الشعب العراقي ليعلن فشل الوساطة مع مقتدى و يذكّر بالأفعال الشنيعة لأعوانه وبتركيب جيشه المختلط، واعتداءاتهم على المراقد المقدسة في النجف وكربلاء، وأنه لابد من الحسم العسكري بعد انتهاء كل الإنذارات، كشرط لاستتباب السلام في النجف ولضمان السير السلمي للعملية السياسية في العراق، وكذلك كخطوة حاسمة لتصفية بقية البؤر الإرهابية في العراق [ الفلوجة وبعقوبة وسامراء وبغداد ].

صحيح أن القضية معقدة وحساسة جدا، ولكن قيامة الفضائيات وإيران وسوريا قائمة فعلا ضد الحكومة والقوات الأمريكية لحد وصف الرد على العدوان الصدري بقصف هيروشيما وناكازاكي! وهذا هو حتى مفتى مصر المحترم يصدر بيانا يندد فيه بعنف بما يصفه زورا بالعدوان الأمريكي على مرقد الإمام علي، وكأنه لا يرى ولا يبصر ولا يسمع بأن المعتدين هم أعوان الصدر المسلحون. وهنا لابد من تذكير كل هذه الأوساط الهائجة، وتذكير الحكومة نفسها، ببيانات المرجعية والحوزة الشيعية عن مقتدى الصدر منذ بداية حركته بالخمسين مليونا من الدولارات التي وهبها صدام حسين لمقتدى الصدر ك "دية" عن مقتل أبيه الشهيد!

في 25 أيار ـ مايو ـ 2004 نشرت إيلاف نص بيان المرجعية الشيعية العليا الذي وصف أنصار الصدر بأنهم " تكفيريون يستبيحون قتل الأبرياء، ويدنسون المقدسات"، وحملهم مسؤولية الاعتداء على الضريح العلوي. ودعا البيان جيش المهدي والقوات الأمريكية للخروج من المدينة. وعبر البيان عن القلق مما دعاه بالدور المباشر " في الاعتداء الأثيم للإرهابيين التكفيريين الذين باتوا يشاهدون في النجف الأشرف قادمين لنصرة السيد مقتدى وماكثين بأسلحتهم تحت ظل رعايته، ممن يستبيحون قتل النفس البريئة وتدنيس المقدسات وهتك حرمة المقامات الشريفة" كما ورد نصا. فأين كانت سوريا وإيران والفضائيات؟ وأين كنتم يا سيدي مفتي مصر؟!

وفي 19 حزيران 4004 أصدرت الحوزة بيانا آخر عن ممارسات الصدر وأنصاره في النجف والكوفة وافتعاله للمعارك المسلحة. وقد وصف البيان هؤلاء بكونهم " عناصر عبارة عن مجموعة من البعثيين وفدائيي صدام، تعضدهم مجموعة أخرى من السلفيين، والقلة هم المغرر بهم"، وإنهم "حولوا المدارس الدينية في النجف إلى سجون وغرف للتعذيب والتنكيل وحتى القتل لكل من يخالفهم في الرأي من المؤمنين والمؤمنات ، وهتك العشرات إن لم نقل المئات الذين يرزحون تحت وطأة هذه العصابة ويستغيثون ولا مغيث." وأضاف البيان أن أنصار اصدر ضربوا الصحن الحيدري وقبة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أكثر من مرة، بهدف تهييج الرأي الشيعي العام ضد أمريكا من جهة، وإحراج موقف المرجعية في النجف من جهة أخرى. وقالت الحوزة إن هؤلاء قاموا بالاعتداء على شرطة النجف التي تعمل على حفظ الامن واستقرار البلد. وقد قتلوا عددا من الشرطة وأسروا آخرينن ودمروا مركز شرطة الغري الواقع في شارع المدينة بعد اتفاق مع البيت الشيعي على نزع مظاهر السلاح وإخلاء الصحن من هذه العناصر ،[ انظر إيلاف ليوم 19 حزيران المنصرم]. ونرى هنا كيف أن الصدر كان يخرق اتفاقا بعد اتفاق مع [ البيت الشيعي] نفسه، والقاضي بنزع الأسلحة وإخلاء الصحن. وهو اليوم يتحدى مجموع القوى الوطنية تقريبا والمؤتمر الوطني، مواصلا للمناورات المراوغة لكسب الوقت مع أن مساعديه يصرحون بأنهم، حتى لو سلموا مفاتيح الحرم للمرجعية، فإن مسلحي الصدر سيواصلون " الحراسة " من خارجه!، أي الرفض البات لنزع السلاح ولحل جيش المهدي الذي شخّص بيانالحوزة النجفية تركيبه وصفا دقيقا بكونه منثلاث مجموعات: قتلة من فدائيي صدام، وسلفيين زرقاويين، وقلة من الشباب المعوز والجاهل والخاضع لعملية غسل الدماغ.

صحيح أن الصدر استطاع جمع أنصار كثيرين، ولكنه لا يمثل شيعة العراق بل وحتى كل الأحزاب الشيعية لا تمثل غير قطاعات واسعة من الشيعة ولكن ليس جميعهم. وقد انتفخت ظاهرة الصدر بسبب تغاضي إدارة التحالف وثم مجلس الحكم، واكتفاء المرجعية الشيعية ببعض البيانات، وبسبب صمت الأحزاب الإسلامية الكبيرة بحجة الحفاظ على وحدة " البيت الشيعي"، الوحدة التي اخترقها السيد مقتدى وزعزعها. أما الأحزاب الديمقراطية نفسها فقد تركت الشارع منذ التاسع من نيسان ـ يوم التحريرـ لتيارات الغوغائية والتطرف، ولم ترد أو لم تستطع تنظيم مظاهرة كبرى واحدة في بغداد تنديدا بعمليات الإرهاب الزرقاوية والصدرية. فهل عن خوف أم عن مسايرة لحسابات ضيقة؟!! ونضيف أن المواطنين عموما حملوا بعد التحرير كل مواريث وعواقب العقلية والنهج الدموي الصداميين، من هواية للعنف، ومن خوف، ومن ضعف في الحس الوطني ومن عدم المبالاة بالمصالح العامة، ومنانطواء على الطائفة والعشيرة.

نقول إنه ليست الحكومة هي وحدها المسؤولة عن التصدي للخطر الصدري المتزايد، خصوصا وفي داخل الحكومة وهيئة الرئاسة من يتبنون سياسة المهادنة والمجاملة مع إيران ومقتدى الصدر، حتى أن منهم من راحوا يصرحون مرة بعد مرة ،بعدم وجود أدلة" على الدور الإيراني في دعم وتسليح الصدر. وهو ما يناقض كل البينات والوقائع الكثيرة التي قدمت الصحافة ومقالات كتابنا الأحرار وتصريحات إيرانية نفسها الكثير منها.

وإذ نقول ذلك كله، فإن السيد رئيس الوزراء والوزراء المعنيين يتحملون المسؤولية الكبرى لإنهاء الخطر الصدري حالان والتخلي عن الانجرار وراء المناورات الهادفة لإنقاذ الصدر أو للخروج باتفاق كسيح يبقي على جيش المهدي وسلاحه. إن أي اتفاق كسيح كهذا، لو تم، سيكون في نهاية المطاف نصرا لمقتدى الصدر ولتيارات الإرهاب، وهزيمة للحكومة، وضربة خطيرة للعملية السياسية العراقية كلها، ولآمالنا في الديمقراطية والبناء. وما أحسن ما قاله الأستاذ عبد الرحمن الراشد في مقالته ليوم 14 الجاري في صحيفة [ الشرق الأوسط]: "علاوي أن يكون أو لا يكون." ويقول الكاتب عن حق إن معظم الشيعة أنفسهم يؤيدون حملة علاوي على حرب الصدر،"ولكن ليس إلى وقت طويل، وحسب النتيجة العسكرية. فالجميع سيقفون إلى جانب حكومته وسيعترفون بشرعيته،وسيسعون لتلبية مطالبه، إن نجح في المعركة الحالية بشكل لا نزاع كبير بعده. أما إن خسر فالمعارك الآتية كثيرة."

ويا أخي السيد رئيس الوزراء: ليست القضية مجرد تسليم مفاتيح أو الجدل حول بيان تلفزيوني، بل القضية الكبرى هي فرض حل جيش المهدي، ونزاع سلاحه، وتقديم المتهمين من أفراده بالقتل العمد لرجال الشرطة وقطع رؤوسهم وفقأ عيونهم وغليها. وكذلك اعتقال من يثبت انتماؤهم للزرقاوي ولفدائيي صدام، أو من المجرمين الذين أطلق طاغية العراق سراحهم.

نعم ونعم! إما حسم المعركة فورا، ومهما كانت ضجة المغرضين وسادة الصدر في طهران وقم وحلفائهم السوريين، وإما أن تعرّض الحكومة نفسه لخطر فقدان المصداقية واستصغار أعداء الديمقراطية لها، ومع الحكومة تعريض مستقبل الديمقراطية لخطر أكيد.