هكذا كانت العناوين الرئيسية على الصحفة الأولى لجريدة عربية عن أحداث يوم الجمعة 17/9/2004 في العراق :

ـ 58 قتيلا عراقياً بينهم نساء وأطفال في غارات جوية و15 في تفجير سيارة مفخخة
ـ تحذير أمريكي من خسائر متزايدة في ( فيتنام بوش )
ـ ( العلماء ) يتهمون الاحتلال بعرقلة إطلاق الفرنسيين وواشنطن تستدرج قوات دولية بذريعة الانتخابات.

أشير أولاً إلى أنَّ الأقواس حول تعبير ( فيتنام بوش ) وكلمة ( العلماء ) من وضع الجريدة، وثانيا إلى أنَّ العنوان الثاني كان مطبوعاً ببنط كبير متميزاً عن العنوان الأول والثالث بالوضوح وحجم الخط كما أنه يتوسطهما.

قارئ الجريدة عابرٌ في الغالب وإنْ دقق فمن باب اهتمامه بخبر أو مادة صحفية تخصه.. لكن لماذا ندقق إذا كانت العناوين الثلاثة وصفة نموذجية لكل فكر لا يريد في الحقيقة.. الخيرَ للعراق.. إلا أن يصبح العراق محرقة أخرى تسيل فيها دماء العراقيين الغالية ودموع القوميين الرخيصة تلك التي تتكئ على شعار ( أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ).
إنَّ العنوان المطبوع بخط كبير ليس خبراً لكي تبرزه الجريدة على صدر صفحتها الأولى، إنه وجهة نظر لجريدة نيويورك تايمز الأمريكية تنتقد الرئيس جورج بوش غير أن استدعاء وجهة النظر هذه وإبرازها في جريدة عربية يعبر عن.. حنين.. في أن يصبح العراق فيتنام ثانية، أما أنْ يحيل.. الحنين.. العراقَ أرضاً خراباً ويذهب بالملايين من أرواح أبنائه كما حدث في فيتنام، فهذا لا محل له من التفكير في عقل الذي حرر المانشيت أو في سياسة الجريدة التي نشرته، المهم من وجهة نظر هؤلاء أنْ ( تغرق أمريكا في مستنقع العراق ) حتى ترحل وذيلها بين ساقيها وعلى العراق بعد ذلك أن ينتظر ثلاثين عاماً أخرى حتى يبدأ المشي على عكازين اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا كما هو حال فيتنام الآن.
سوف يتهمني أحد الموتورين وما أكثرهم أنني مع الاحتلال الأمريكي للعراق.. نعم.. أنا مع الاحتلال الأمريكي للعراق لأنه قوضَ نظاماً بشعاً، أما بقاء الاحتلال أو رحليه فهذا أمر يجب أن نتركه للعراقيين أنفسهم لكي يتعاملوا معه بما تمليه مصالحهم حتى ولو كانت مع.. الشيطان.. لأن القومية لم تنقذ فلسطين ولن تنقذ العراق إلا بإذكاء نار الصراع لكي يضيع العراق كما ضاعت فلسطين ولكي يجد المناضلون من كل صنف ولون المزيد من.. الأوسمة والأرصدة.. مع العلم بأن المنحى العام عند العراقيين هو رفض الاحتلال ورفض مقاومته عسكريا والرغبة العميقة في البناء والعمل وقد يكون هذا المنحى حاملاً لتناقضات ولكنها تنقاضات إنسان عذبته الحروب ويأمل في الخروج من رمادها ليس كعنقاء الشعر العربي الساذج وإنما كإنسان يعمل ويبني ويستمتع ويعيش.

الجريدة أو محررها كانا أيضا في تقديم إحصائية على أخرى حتى يمكن.. لشرعية السيارات المفخخة.. أن تمر في عنوان جاء هكذا :
ـ 58 قتيلا عراقياً بينهم نساء وأطفال في غارات جوية و15 في تفجير سيارة مفخخة
والحقيقة على أرض الواقع في العراق هي أن العراقيين يتوجسون من.. السيارات المفخخة.. أكثر من توجسهم من الغارات الأمريكية التي تستهدف منازل في الفلوجة ومحيطها يختبئ فيها إرهابيون عرب ومسلمون ولن ينكر هذه الحقيقة إلا أعمى يضربه الحنين أيضاً إلى حلفٍ مقيت بين مناضلي القومية ومجاهدي الإسلام، ولن يسأل هذا الأعمى نفسه أبداً.. لماذا حينما حوصرت الفلوجة قبل عدة أشهر خفت عمليات تفجير السيارات المفخخة إلى حد كبير ؟ ولماذا أيضاً يختبئ المناضلون والمجاهدون والإرهابيون والمقاومون بين السكان ويتخلون عن شجاعة المواجهة مع العدو وجها لوجه بعيداً عن المناطق الآهلة بالسكان حتى لا يسقط ضحايا من الأطفال والنساء، وأشير هنا إلى مقال كتبته قبل فترة بعنوان ( حكاية الأطفال والنساء والشيوخ ) وهذا الرابط لمن أراد الإطلاع عليه.
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=17077

سوف أستعير من العروبة ثالثة الأثافي.. العنوان الثالث للجريدة العربية :
ـ ( العلماء ) يتهمون الاحتلال بعرقلة إطلاق الفرنسيين وواشنطن تستدرج قوات دولية بذريعة الانتخابات.
وكلمة العلماء التي وضعتها الجريدة بين قوسين تدل على العلماء بالمطلق وسوف نعرف حين نقرأ التفاصيل أن هؤلاء هم : علماء مسلمي العراق.. كما تقول الجريدة بالمطلق أيضاً وحينما ندقق أكثر سيكون هؤلاء هم.. هيئة علماء المسلمين على وجه التحديد.. وهي مجموعة من رجال دين سنة بادروا.. باحتلال.. مسجد أم المعارك أو أم القرى على ما أطلقوا عليه وذلك عقب تقويض نظام صدام حسين.. وهذا المسجد له حكاية.
يُقال إنَّ منزلاً في منطقة العامرية لا يزال موجودا في الحقيقة ضمن المحيط الشاسع لمسجد أم المعارك.. كان يستخدمه صدام حسين في إدارته ( لأم المعارك ) أو حرب تحرير الكويت على ما يذهب أصحاء العقول.. وتبركاً بالمكان الذي أدار منه صدام حربه الخاسرة أمر ببناء مسجد في محيطه وهكذا كان المسجد الذي أنفقت في بنائه ملايين الدولارات ( أيام الحصار التي يتباكى منها المناضلون العرب ) وجاء المسجد تحفة معمارية وسط بحيرة على شكل خارطة العالم العربي :
بحيرة على هيئة
خارطة الوطن العربي
يتوسطها مسجد ( أم المعارك )
الآن فهمت
لماذا يحب العرب صدام حسين
لقد كان مثلهم الأعلى
هذا الذي يمسح الدم عن سكين القاتل
في سجادةِ الصلاة.

لكن ما بهم هؤلاء العلماء في مسجد أم المعارك ؟ إنهم يتهمون القوات الأمريكية بعرقلة إطلاق سراح الصحفيين الفرنسيين اللذين كانا مخطوفين من قبل جماعة تتاجر بدمائهما وتطلب خمسة ملايين دولار أمريكي ربما لتمويل.. عمليات الجهاد.. وكان هذا الطلب تنازلاً.. كريماً.. بعد التخلي عن طلب آخر يتمثل في دعوة الحكومة الفرنسية إلى إلغاء قانون حظر الرموز الدينية في المدارس والمؤسسات العامة وهي تحديداً ( القلنسوة اليهودية والصليب الكبير وحجاب النساء الإسلامي ).
العلماء هؤلاء أو هيئتهم لم يقولوا شيئاً عن ذبح اثني عشر مواطناً من نيبال كانوا عمالاً في العراق، ولما كان التوافق بين الشياطين أمراً منطقياً فقد كان منطقياً أكثر بين كل المستفيدين من نظام صدام حسين وفي المقدمة خارجياً.. فرنسا الوديعة.. ولا شك أن القوميين والمناضلين والمجاهدين يعرفون جيداً أن فرنسا الوديعة هذه هي التي ساهمت في بناء أساس البرنامج النووي الإسرائيلي الذي يهدد العالم العربي اليوم بما يزيد عن مائتي قنبلة نووية استراتيجية وتكتيكية.

الجرائد ومنها العربية لا تهتم بالتاريخ إلا لماماً وهي تنقل أخباراً أو تعلق عليها، كما في العنوان الثالث الذي اتهمت فيه هيئة علماء المسلمين القوات الأمريكية بعرقلة إطلاق الصحفيين الفرنسيين وقد أطلق سراحهما.. لكن للعنوان تكملة :
ـ وواشنطن تستدرج قوات دولية بذريعة الانتخابات.
توضح الجريدة أو محررها أن الولايات المتحدة بدأت تحركاً دبلوماسياً.. لاستدراج.. الدول الأخرى إلى إرسال قوات إلى العراق.. بذريعة.. تأمين الانتخابات المقرر إجراؤها في يناير المقبل.
وبعيداً عن نوايا واشنطن، أليس مفيداً أن تساهم دول أخرى في حفظ الأمن في العراق حتى يمكن إجراء الانتخابات التي بدورها قد تؤسس شرعية مستقبلية لديموقراطية حتى ولو كانت متعثرة يتمناها أصحاء العقول للعراق وغيره أم أن ديكتاتورية القادة التاريخيين من عينة صدام حسين أشهى مذاقاً ودماً في فم القوميين والمناضلين والمجاهدين ومحللي الفضائيات.

إنْ كانت العناوين الثلاثة التي أشرت إليها مجرد مانشيتات تتغير يوميا إلا أنها في الحقيقة تعبر عن جوهر فكر :
ـ لا يريد أن يُقر أولا بالهزيمة ليس بالمعنى العسكري فقط وإنما بالمعاني الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية أيضاً.
ـ وثانياً لا يريد هذا الفكر نقد مجاله المُجرَّب بالخراب لما يزيد عن خمسين عاماً قومياً ولما يزيد عن ألف عام دينياً.
ـ وثالثاً يُصرُّ هذا الفكر على سياسة القطيع التي تصفُّ الدول والمجتمعات العربية بمسطرة واحدة ويسلقها بالشعارات التي لم يتحقق منها على الأرض إلا واحداً فقط.. التعاون الأمني بين وزارات الداخلية العربية.
ـ رابعاً يجاري هذا الفكر.. الجماهير.. في غرائزها المشبعة بالرغبة في القتل وبنفي الآخر المختلف معها ولا يحاول أن ينظر نظرة نقدية لما آلت إليه أحوال الجماهير.. من فقر وتخلف واستبداد.
ـ خامساً لا يثق هذا الفكر في قدرة شعب مثل الشعب العراقي على التعامل مع أزمته التاريخية ويريد هذا الفكر أن يدفع بالشعب العراقي إلى محرقة.. ألسنا في مواجهة مع أمريكا.. ولن ينجو من هذه المحرقة سوى هؤلاء المتسعكين بأدمغتهم القومية والدينية على أرصفة الدم طالما هم بعيدون عن ساحة المعركة وينظرِّون من جرائد وفضائيات ومقرات أحزاب كسيحة.

سوف ينجو العراق.. من هذا الفكر ومن الاحتلال أيضاً ومن الإرهاب المتخفي في أقنعة قومية كانت أم دينية.

انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص

ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف