ليس هناك اختلاف بين المؤرخين أن عرب ما قبل الإسلام كانوا يمجدون الشعر والشعراء، وكانت القبيلة تحتفل بظهور شاعر فيها يساعدهم على الفخر بقبيلتهم ويهجو أعداءهم. وقد كان الشاعر بمثابة السفير القبلي، تحترمه القبائل الأخرى وتقدم له الحصانة الدبلوماسية اتقاء لسانه الذي قد يكون سليطاً في هجائهم. وكل هذه الأهمية التي حبوا بها الشعر ترجع لتفشي الأمية في القبائل العربية، خاصة البدوية منها. ولأن الشعر موزون على قوافي، يسهل حفظه في الذاكرة، بعكس النثر الذي يحتاج إلى الكتابة لحفظه. والحكماء والكهان لجئوا إلى السجع إذا أعوزهم الشعر لأن السجع كذلك يسهل حفظه.

ثم جاء الإسلام وأتى بالسور المكية التي كانت في أغلبها مسجوعة، مثل سورة الفلق، وسورة الناس وسورة الرحمن، فاتهم عرب مكة النبي بأنه شاعر يقرض الشعر كغيره أو كاهن يسجع لهم كما يسجع الكهان. فدافع القرآن عن النبي بأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ولذلك لا يمكن أن يكون قد كتب القرآن بنفسه. ولم يُقنع هذا المنطق عرب مكة إذ أن أغلب الشعراء المشهورين وقتها وكذلك أغلب الكهان كانوا أميين. ولذلك تحول الدفاع عن النبي إلى الهجوم على الشعر والشعراء باعتبار أن الإسلام يكره الشعر والشعراء ولذلك لا يجوز عقلاً أن يكون النبي شاعراً والإسلام يكره الشعراء. فنزلت الآيات المكية تباعاً تنفي أن يكون النبي شاعراً أو كاهناً، فنزلت سورة الشعراء وبها 227 آية تحكي قصص الأنبياء من موسى ونوح وغيرهم، وبها ثلاثة آيات فقط تذكر الشعراء: " والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل وادي يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون " (224-226)، ومع ذلك سُميت السورة باسم الشعراء لتؤكد كراهية الإسلام للشعر والشعراء. وكذلك نجد: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكرٌ وقرآنٌ مبين " (يس 69). وكذلك: " بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعرٌ فليأتنا بآية كما أُرسل الأولون " (الأنبياء 5). وكذلك: " فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعرٌ نتربص به ريب المنون " (الطور 1920). وأخيراً: " وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون " (الحاقة 41).

ولتكتمل فكرة كراهية الإسلام للشعر والشعراء، روى أهل الحديث أحاديثاً كثيرة عن النبي تُبّخس الشعر والشعراء. فقد روي مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا) وفي الصحيح أيضا عن أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشطان - لان يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا) (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي). وروى الطبراني في معجمه الكبير: " حدثنا علي بن إسحاق الوزير الأصبهاني ثنا محمد بن منصور الجواز المكي ثنا يعقوب بن محمد الزهري ثنا أبو صخر واصل بن يزيد السلمي ثم الناصري حدثني أبي وعمومتي عن جدي مالك بن عمير أنه شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وخيبر والطائف وكان رجلا شاعرا فقال يا رسول الله أفتني في الشعر فقال لأن يمتلىء ما بين لبتك إلى عاتقك قيحا خير من أن يمتلىء شعرا قلت يا رسول الله امسح على رأسي فوضع يده على رأسي فما قلت بعد ذلك بيت شعر ".

وعندما نزل الوحي على النبي لأول مرة خاف منه النبي وظن أنه قد أصابه مسٌ من الجنون فكاد يقتل نفسه ثم قال: " ولم يكن من خلق الله أحدٌ ابغض إليّ من شاعرٍ أو مجنون، كنت لا أطيق أن أنظر إليهما، قال: قلت إنّ الأبعد – يعني نفسه- لشاعر أو مجنون، لا تحدث بها عني قريش أبداً! لأعمدن إلي حالقٍ من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن. ( تاريخ الطبري، ج1، ص532)

وقد هجا عدد من الشعراء رجالاً ونساءً النبي فأمر بقتلهم، منهم أبو عفك، ذلك الرجل المسن الأعمى الذي هجا الرسول فقال لأصحابه " من لي بهذا الرجل ؟ " فتطوع أحدهم وتسلل إلى فناء دار الشاعر الأعمى ليلاً وقتله. ثم عندما هجا كعب بن الأشرف النبي قال: " من لكعب بن الأشرف فقد آذى الله ورسوله ؟ " فقتلوا كعب بن الأشرف ( الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية، ج1، ص 57). وعندما جاء اليهود إلى النبي يشكون قتل كعب قال لهم: " إنه لَو قَرَّ كما قَرَّ غَيرُهُ ممَنْ هُوَ عَلى مِثْل رَأْيِه مَا اغْتِيَل ولَكنهُ نَال مِنَّا الأذى، وَهَجَانَا بالشِّعر، ولَم يَفْعَل هذَا أحدٌ منكُمْ إلاَّ كانَ السّيف " (نفس المصدر ونفس الصفحة). والشاعرة عصماء بنت مروان قالت شعرأً هجت به النبي فأمر بقتلها، فقتلها عُمير بن عدي، فقال النبي: " لا ينتطح فيها عنزان " ( المنتظم في التاريخ لابن الجوزي، ج4، ص 112). والشاعر كعب بن زهير بن أبي سُلمى كان قد بعث أخاه جُبير إلى مكة ليستطلع له أخبار النبي، فأسلم جبير، وعندما بلغ كعب خبر إسلامه قال قصيدةً طويلة منها:

سقاك بها المأمور كأساً رويةًفأنهلك المأمور منها وعلكا

وبما أن كلمة المأمور في تلك الأيام كانت تعني الشاعر الذي يأمره الشيطان بقول الشعر، أهدر النبي دمه وأمر بقتله وقطع لسانه (الكامل في التاريخ للمبرد، ج2، ص 21).

وكان عدد الشعراء الذين هجوا النبي أو امتنعوا أن يقولوا شعراً يُمجّد الإسلام كبيراً، فأمر النبي بقتلهم، ويقول الدكتور شاكر النابلسي في كتابه " لو لم يظهر الإسلام " ما يلي: " وأخيراً توقف الشعراء عن قول الشعر كما فعل لبيد بن ربيعة، وعَدِمَ ظهور شعراء جدد خوفاً من القتل وإهدار الدم، مما أدى إلى ضعف الحركة الشعرية في صدر الإسلام، حيث قامت مجزرة كبيرة وفريدة في تاريخ الثقافات الإنسانية للشعراء في صدر الإسلام. فقد تم في عهد النبي قتل أكبر عدد من الشعراء في تاريخ الثقافة العربية، بل في تاريخ الثقافة الإنسانية قاطبة. وهؤلاء ممن عارضوا الإسلام ورفضوا تجنيد شعرهم لخدمته، وقد تم قتلهم. ومن هؤلاء: أبو عفك وعبد الله الأدرمي، ومقيس الكناني، وأبو عزة الجمحي، والشاعرة عصماء بنت مروان، وكعب بن الأشرف، وسلام بن أبي الحقيق. وكان هناك عدد من الشعراء أهدر النبي دمهم لكنه لم يقتلهم لأنهم هربوا في الصحراء، ومنهم: هبيرة المخزومي، وأسيد بن أناس، وكعب بن أبي سلمى، والحارث بن المغيرة وغيرهم. "

وعندما جاء وفد اليمن لمبايعة النبي بعد فتح مكة ذكروا امرأ القيس، شاعرهم المشهور، فقال لهم النبي: " ذاك مشهور في الدنيا خامل في الآخرة، مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، يجئ يوم القيامة معه لواء الشعراء يقودهم إلى النار " (تاريخ بغداد للبغدادي، ج3، ص 177)

وإلى هنا يبدو الأمر جلياً، وموقف الإسلام من الشعر والشعراء واضحاً. ولكن لم يكن الأمر بهذه البساطة، فيبدو أن النبي كان مولعاً بالشعر والشعراء، ويروى أن النبي كان يسمع شعر أمية بن أبي الصلت، وأن الشريد بن سويد كان ينشد له شيئا منه في أثناء أحد أسفاره، فكان كلما أنشد له شيئا منه، طلب منه المزيد، حتى إذا ما أنشده مائة بيت، قال النبي له: كاد ليسلم. وذكر أن الرسول قال في حديث له عنه: آمن لسانه وكفر قلبه ( صحيح مسلم: كتاب الشعر، 7/48_ طبعة محمد علي سبيح ). وفي المنتظم في التاريخ لابن الجوزي قصة مماثلة لهذه على لسان شريد الذي قال: " فأناخ الرسول فحملني فقال‏:‏ أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ ‏"‏ هات ‏"‏ فأنشدته قال‏:‏ أظنه مائة بيت قال‏:‏ وقال‏:‏ عند الله علم أمية بن أبي الصلت ". (ج3، ص50).

وعندما كثر الهجاء على النبي طلب من الشاعر الأنصاري حسان بن ثابت أن يرد على الشعراء بمثل قولهم وجعل حسان شاعره الخاص، رغم أن حسان بن ثابت كان من أوائل الذين نشروا حادثة الإفك ضد السيدة عائشة، وكان النبي قد جلده في ذلك. وقال حسان شعراً كثيراً يُمجّد الإسلام ويدافع عن النبي، ولم نسمع أن النبي استهجن شعره أو منعه من قول الشعر. وكان كعب بن مالك شاعراً مشهوراً لكنه كان من الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وقاطعهم النبي وأمر المسلمين بمقاطعتهم وأمر أزواجهم بمفارقتهم حتى نزلت آيات العفو عنهم. وبعد هذه الآيات اتخذ النبي مالك بن كعب شاعراً يدافع عنه. وعندما هجا كعب قريشاً، وكانت تُرف ب "سخينة "

فقال: جاءت سخينةُ كي تغالب ربهافليغلبن مغالب الغلاب
قال له النبي : " لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا." ( شذرات الذهب للدمشقي، ج1، ص 15).وفي رواية أخرى قال له النبي: " ما نسى ربك وما كان ربك ناسياً شعراً قلته " ( دلائل على إعجاز القرآن، لعبد القاهر الجرجاني، ص 17، نقلاً عن النص المؤسس ومجتمعه، خليل عبد الكريم).

وكان النبي قد أمر بقتل النضر بن الحارث بعد أن أسره في غزوة بدر، فنعته أخته قُتيلة بقصيدة طويلة قالت فيها:
يا راكباً إن الأثيل مظنةٌمن صبح خامسةٍ وأنت موفقُ
أبلغ بها ميتاً بأن تحيةًما أن تزال بها النجائب تخفقُ
مني إليك وعبرةً مسفوحةًجادت بواكفها وأخرى تخنقُ
هل يسمعني النضر إن ناديتهأم كيف يسمع ميتُ لا ينطقُ

وعندما سمع النبي هذا الشعر قال: " لو سمعت شعرها قبل أن أقتله لما قتلته " واستُدلَ بهذا القول الصحيح أن النبي له أن يجتهد في الأحكام. (شذرات الذهب، ج1، ص 27)
قال ابن هشام : وبلغني أن بعضَ ولد سامة بن لؤي أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانتسب إلى سامة بن لؤيّ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشاعر ؟ فقال له بعض أصحابه : كأنك يا رسول الله أردت قوله :

رُبَّ كأسٍ هَرَقْتَ يا ابن لؤىّ حَذَرَ الموتِ لم تكن مُهْراقهْ

قال : " أجل ". فالنبي هنا يُظهر علماً متفوقاً حتى بالشعراء غير المشهورين. ولكن يبدو أن أصحاب النبي ظلوا يعتقدون أن الشعر مكروه في الإسلام، فقد روى الترمذي وصححه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه ويقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر: يا ابن رواحة! في حرم الله وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خل عنه يا عمر فلهو أسرع فيهم من نضح النبل " (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي).

وابن عباس كان من أكثر الناس حفظاً للشعر، وقال عنه الثعالبي: " لقد امتلك ابن عباس أدوات المفسر ، فكان عالما بأسرار العربية يحفظ الكثير من الشعر القديم ، ويحث الناس على النظر فيه قائلا : " إذا تعاجم شئ من القرآن ، فانظروا في الشعر فإن الشعر عربي " . وهو القائل : " الشعر ديوان العرب ، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب ، رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا ذلك منه " (تفسير الثعالبي المسمى بالجواهر الحسان في تفسير القرآن ، ج1، ص 40).
ويتضح من هذا السرد أن موقف الإسلام من الشعر والشعراء يشوبه الغموض الذي يشوب أغلب ما نتطرق إليه في القرآن والسنة. فهناك من يحلل الشعر وكناك من يُحرّمه، وكل يستطيع أن يأتي بالأحاديث المؤيدة له. وفي اعتقادي فإن نفس الشئ ينطبق على الغناء والموسيقى.