بدءا بالبرتقالة مرورا بالتفاحة والرمانة ووصولا إلى مشمشة، فقد خرجت علينا موجة ألاغاني الخليعة التافهة التي كانت تحصيل حاصل لتربية فنية وأخلاقية لنظام عنصري فاشي، خرب كل القيم والأخلاق والعرف الاجتماعي، وأضر بلحمة العائلة العراقية وتماسكها، فشرد من شرد وقتل من قتل واضر بالمنهج العلمي، وطرق التربية والتعليم، وأسس لثقافة الحزب الواحد والانتماء القسري لحزب السلطة الفاشي. وعلى هذا النسق سار كل شئ في بلد الخير وأولى الحضارات البشرية في التاريخ، وطالت يد التخريب والدمار كل نواح الحياة فيه. فقد زور التاريخ، وسنت سنن جديدة في الوشاية والانتقام من الآخرين، وهيأت عقليات النشء الجديد وفق منهج عدواني عسكري يكره كل ما هو خير للبشرية.
وإذا رجعنا قليلا للوراء يوم كان البعث مهيمنا على مقدرات العراق نرى أول درس يتعلمه الطفل في المدرسة هو كره الآخر، فعندما ينادي مراقب الصف عند دخول المعلم : قيام، يقف الطلاب مرددين : قادسية صدام. وعند قول المعلم : جلوس، يجلس الطلاب مرددين : الموت للفرس المجوس. ومن هذا المثل السيئ نخرج بنتيجة مؤداها إن هناك تجهيل تام جرى لحرف ذهنية التلميذ الصغير، وزرق مفاهيم عدوانية في عقليته الصغيرة، وهي تتطابق كلية مع المقولة النازية ( حرب على الخارج حرب على الداخل )، وخلق أعداء وهميين للمواطن بغية حرف ذهنيته عن التفكير بعدوه الرئيسي المتربص به في الداخل. وعلى هذا المنوال جرت عملية (التربية والتعليم ) إذا صح إطلاق هذه التسمية على ما كان يجري في المدارس العراقية.

ولذا فليس من المستهجن أن تنتشر بعد سقوط النظام الدكتاتوري تقليعة أغاني الفواكه الخليعة التي لا تتوافق مع الفكر والعرف الاجتماعي العراقي، وتسيء بطريقة مقصودة للعراقيات اللاتي كن أول ضحايا النظام السابق، فالعراقية التي ضامها النظام كانت وسط معمعة القتل والتشريد إن كانت ممارسات النظام تمسها بصورة مباشرة، أو كأم، أو أخت، أو زوجة، أو قريبة،أو خطيبة لأحد الضحايا.

وما نراه من انتشار هذه الظاهرة الغريبة على مجتمع محافظ مثل المجتمع العراقي يصيبنا بالصدمة، كون جميع تلكم ألاغاني الداعرة قام بتمثيل الدور الرئيسي في الفيديو كليب فتيات غجريات ممن كن ضمن حماية ورعاية رجال النظام السابق الذين كانوا بحكم انتماءهم للسلم الاجتماعي الأوطأ في المجتمع العراقي يفضلون هذا اللون من المتعة الفنية والجسدية. وقد ظهر ذلك واضحا في أشرطة الفيديو التي تم العثور عليها بعد سقوط النظام لرجاله في أعلى مراكز السلطة كعلي حسن المجيد المشهور بعلي كيمياوي، ووطبان إبراهيم الحسن الأخ غير الشقيق لصدام حسين، وآخرين غيرهم.

فلم يعرف الغناء العراقي قبل هذا اليوم الكم الهائل من هز الأرداف والصدور والتمايل بصورة داعرة ونشر الشعور وبملابس لا تستر الجسم كما هو حاصل في أشرطة الفيديو كليب المطروحة في الأسواق حاليا. ولم تظهر هذه ( المودة ) الجديدة إلا في مقتبل سبعينيات القرن الماضي ومع مجيء حزب البعث للسلطة بعد انقلابهم في 17 تموز 1968، حيث تصاعد رصيد ( بنت الريف حمدية صالح وبناتها ) بعد أن أفسح لهم رجال في السلطة الجديدة مكانا في الإذاعة الرسمية والتلفزيون، وكان على رأس أولئك المعجبين بJ(الكاولية )، أو ( الغجر ) وزير الداخلية ( سعدون غيدان )، وثلة من العسكريين وجلهم كصاحبهم غيدان منحدرين من المدن الشمالية الغربية والغربية من العراق. لكن دور ( الكاولية ) نمى وتصاعد مع انحسار بعض أزلام السلطة من المحسوبين على الثقافة العراقية وحلول مسئولين من أنصاف المتعلمين أو شبه أميين على رأس السلطة بصعود صدام حسين لقيادة الحزب والدولة، كابن عم الرئيس علي الكيمياوي وإخوانه غير الأشقاء وبني عمومته من قرية العوجة مسقط رأس صدام حسين نفسه. وينظر جميع المثقفين لهذه الطاهرة الغريبة على الفن والثقافة العراقية نظرة استهجان وتعجب، بعد أن أصبحت ( فنا ) له سوقه ورواده من المعجبين أو المحرضين على سوق نخاسة عرض الأجساد الجميلة المتأرجحة من حفيدات ( حمدية صالح )، وبقايا فنانات علي كيمياوي وعبد حمود ووطبان التكريتي.

يبقى إن الحل بعد استقرار الوضع الأمني، وإحلال السلام في ربوع العراق أن تنهض وزارة الثقافة العراقية وتحتضن المبدعين العراقيين من الفنانات والفنانين لمحو سبة أغاني البرتقالة والتفاحة والرمانه وحتى المشمشة، فمن المؤسف أن يعاني الشعب العراقي من إرهاب إقليمي منظم يحرق الأخضر واليابس بينما يتاجر البعض بأجساد غجريات عاريات لا يفقهن للشرف والعفة معنى بحجة كونهن عراقيات، ويلصقن كل مساوئهن بأمهاتنا وأخواتنا وبناتنا المظلومات الصابرات.

كاتب وصحفي عراقي مقيم في النمسا