يبدو ـ والله أعلم ـ أن الخطيئة الكبرى التي ارتكبها النائب البرلماني، ورئيس حزب "الغد"، أيمن نور، هي اطمئنانه المفرط للدولة المصرية، وثقته البالغة في تسامحها، أو بقدراته في الالتفاف عليها، أو حتى الرهان على غفلتها وترهلها، أو أياً كانت نواياه وتقديراته، لكن شواهد التاريخ تؤكد أن هذه الدولة الممعنة في مركزيتها، بغض النظر عن طبيعة نظامها السياسي، ولا القابع على سدة الحكم فيها، ينطبق عليها المثل الشعبي المصري القائل إن "حمارة الحكومة عرجا .. لكنها بتوصل"، فما بال الأمر حين تكون مقاليد هذه الدولة بيد "العسكر"، الذين يظلون "عسكراً" حتى لو تخلوا عن بزاتهم ونجومهم، واستبدلوها بأخرى مدنية، فالعسكريتاريا ليست مجرد زي، بقدر ما هي حالة فكرية، ومنطق شديد الإحكام والدقة والغباء في آنٍ، ومن هنا قال الفلاح المصري ـ وهو الخبير التاريخي في التعامل مع شتى أنظمة القمع ـ كلمة الفصل في هذه الحالة: "إن كان ذراعك عسكري .. اقطعه"، ولعل هذه النصيحة الذهبية لم يدركها الشاب المتوهج بالآمال والطموح، حين تصور أنه بمنأى عن قبضة الدولة الفولاذية، وهذه خرافة أو بالأحرى خطيئة شائعة، يرتكبها كل من ابتسمت لهم الدولة في "ظروف غامضة"، فيتوهمون أنه العشق الذي يغفر كل الذنوب .

الوفد والغد
ومثل كرة الثلج التي كلما تدحرجت كبرت، والحكاية أقدم كثيراً من واقعة رفع الحصانة عن نور ومن ثم التحقيق معه بتهمة التزوير في توكيلات المنتسبين للحزب، الذي صرحت به الحكومة مؤخراً، باسم "حزب الغد"، ثم حبسه احتياطياً على ذمة القضية، بل ترجع إلى بدايات نور الأولى، شاباً من أسرة متوسطة الحال، مفعماً بالحماس والطموح، يتسم باللباقة ويبدو عليه سمت "أبناء العزّ"، وقد عمل فور تخرجه محرراً في صحيفة "الوفد" لسان حال "حزب الوفد" منذ العام 1984 حتى شهر آذار (مارس) من العام 2001، وارتقى سلمها حتى تولى منصب نائب مدير تحريرها، إلى أن تم فصله من عضوية الهيئة البرلمانية العليا للحزب, وبعد خلافات حادة مع نعمان جمعة، رئيس الحزب، فقد نور موقعه كسكرتير عام للحزب في القاهرة, ثم انتقل إلى حزب ورقي لكنه يتمتع بالشرعية، وهو "مصر العربي الاشتراكي"، قبل وفاة مؤسسه ورئيسه جمال ربيع، ليعلن نفسه نائباً لرئيس الحزب، وهو الموقع الذي تنازع عليه مع أكثر من شخص أمام القضاء من دون حسم .
أما على الصعيد المهني فقد صنع أيمن نور شهرته كصحافي متميز خلال معركة شهيرة جرت وقائعها مع وزير الداخلية المصري الراحل زكي بدر، وبعد إقالة الوزير في واقعة شهيرة، تحول نور إلى نائب برلماني يمثل واحدة من أكثر دوائر القاهرة شراسة، وهي منطقة "باب الشعرية" الشعبية الشهيرة، وداخل مجلس الشعب (البرلمان) اشتهر نور باستجواباته التي كثيراً ما بدت محرجة للحكومة المصرية، غير أن طموحه المتنامي بدأ يضيق بكل تلك الأطر التقليدية السائدة في الشارع السياسي المصري، وخلال الأعوام القليلة الماضية ظهر واضحاً سعي نور بإصرار إلى رئاسة حزب سياسي جديد، وبعد رفض أوراق تأسيس الحزب مراراً، وبينما كانت المعركة القضائية على وشك نهايتها لصالح تأسيس الحزب، بادرت الحكومة ممثلة في شخص صفوت الشريف، الذي يرأس لجنة شؤون الأحزاب بصفته رئيساً لمجلس الشورى، إلى الإعلان عن موافقة اللجنة على تأسيس الحزب في خطوة وصفها البعض حينئذ بأنها لا تخلو من "صفقة ما"، خاصة وأن نور لم يكن في أي لحظة مضت في حال قطيعة مع النظام ورموزه، بل تربطه بالكثير منهم صلات طيبة، وتجمعه بهم لقاءات رسمية وأخرى ليست كذلك، لكن ما أن بدأ أيمن نور يطرح نفسه باعتباره "مشروع نجم" برلماني وسياسي، حتى وقعت الواقعة، التي لم تزل "حديث المدينة" ويبدو أنها ستظل كذلك لوقت ربما يستغرق عدة شهور، وتكبر معها الحكاية والتساؤلات التي تطرحها، والألغاز التي تحيطها، خاصة بعد الانقلاب عليه فجأة رغم تمرير حزبه ـ كما أسلفنا ـ بشكل أقرب إلى الصفقات، ومن ثم القبض عليه بطريقة بوليسية لا تخلو من الفجاجة، ومحاولة إهانته بتوجيه اتهامات "جنائية" إليه، مروراً برفع الحصانة البرلمانية في جلسة عاجلة لمجلس الشعب، كانت أقرب إلى "بروفة" محاكمة أو تحقيق، باشرته بالفعل لاحقاً نيابة أمن الدولة العليا، التي يشرف عليها النائب العام شخصياً بشكل مباشر .
وعبر الهاتف وعقب جلسة رفع الحصانة عنه، وقبيل القبض عليه، وصف نور ما جرى بأنه "أكبر عملية تلفيق سياسي وكيد حزبي في البرلمان منذ عام 1921, خاصة أن جميع أجهزة الدولة قد اجتمعت خصيصاً لهذا الغرض يوم الجمعة لاستصدار أمر بالقبض عليه استناداً إلى أن تحريات مباحث الأموال العامة أكدت أنه زوّر توكيلات لبعض مؤسسي حزب الغد لتقديمها للجنة شؤون الأحزاب بهدف تمرير إجراءات تأسيس الحزب، وأشار نور إلى أن المحامي العام لنيابات أمن الدولة قد أعد المذكرة يوم الجمعة الماضي دون أن يلتفت إلى أن هذا اليوم إجازة رسمية, وأحالها للنائب العام الذي أحالها بدوره إلى وزير العدل في نفس اليوم، ثم إحالتها على رئيس مجلس الشعب (البرلمان) فجر اليوم التالي"، الذي رفع الحصانة عنه في جلسة إجرائية اتسمت بالإيقاع السريع ـ خلافاً للمعتاد ـ وبالاحتقان أيضاً

الفتى المدلل شهيداً
وبينما يقول معارضون ونشطاء ومراقبون في مصر إن حبس نور يشكل "انتكاسة خطيرة" في مسيرة الإصلاح والسعي صوب تأسيس نظام ديموقراطي وحكم رشيد، ويشيع أجواء "سبتمبرية"، تشبه تلك التي شهدها آخر أيام الرئيس المصري الراحل أنور السادات، غير أن هؤلاء أنفسهم يقولون شيئاً مختلفاً في مجالسهم الخاصة، كما يتبنى بعضهم خطاباً مغايراً تماماً للمعلن والخاص، حين يكون الحديث موصولاً مع أحد أطراف السلطة أو رموزها، أو حتى أدواتها المتمثلة في جهاز الأمن الجبار، الذي يمسك بكل صغيرة وكبيرة في مصر، فأول ما يتفق بشأنه المراقبون والنشطاء والمعارضون أن حبس نور هو استكمال لجواز مروره صوب مرحلة جديدة، سيقدم خلالها نفسه كمناضل "دفع الثمن" من حريته وربما أيضاً من مكاسب أخرى، وإن كان هؤلاء يختلفون في ما إذا كان النظام هو الذي يخرج هذه اللعبة كاملة، أم أنه ـ كعادته ـ قرر معاقبة نور من دون النظر لما قد يترتب على ذلك من نتائج، سواء بحق النظام السياسي ذاته، الذي لم يعد سراً أنه يكابد الآن سلسلة من الأمراض المستعصية التي تشبه "أعراض الشيخوخة"، والتي لا رجاء في حسمها، بقدر ما يصب علاجها في خانة "التعايش" معها وتخفيف آلامها قدر الإمكان، أو بحق أيمن نور الذي سيغسل يديه وربما قدميه أيضاً من تهمة وصمه بأنه "فتى الحكومة المدلل"، ليصبح منذ اللحظة التي ألقت فيها مباحث الأموال العامة القبض عليه "بطلاً" ونموذجاً يتحسب له النظام، وبديلاً ليس عن المعارضة المهترئة فحسب، بل ربما عن النظام ذاته .
نور شخصياً اعتبر أن ما تعرض له على النحو الذي فصلناه "رسالة سياسية وُجهت له إثر عقده مؤتمرًا جماهيريًا في دمياط شمال مصر، والذي أعلن خلاله إنه سيترشح لرئاسة الجمهورية إذا تقدم للترشيح جمال مبارك"، لكن رغم اعتقاد نور أن هذا هو سبب إقصائه, غير أن هناك من يرى أن الظهور القوي لـ "حزب الغد" على الساحة السياسية، ولقاء رئيسه بالسفير الأميركي، ثم مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، من دون أن يعرف النظام الحاكم فحوى ما دار بينهما هو السبب الرئيسي للضغط علي نور .

حارة السقايين
في كل الأحوال تبدو قصة السيد أيمن نور محصلة عدة خطايا، واحدة منها ولعلها الأبرز تلك التي ارتكبها نور ذاته، حين راهن على تسامح النظام أكثر مما ينبغي، ونسي أن الآلة العسكرية الجهنمية لا ترحم، ولا تعرف التوقف، وعندما يستنفذ أحد تروسها مهمته تلقي به في سلة المهملات، وتستبدله بآخر، فالمهم أن يتواصل هدير الآلة، كما أخطأ نور حين قرر بيع المياه في "حارة السقايين"، فتزوير إرادة الناس حين يكون صناعة حكومية، لا أحد يهتم أو حتى يجرؤ على الكلام، لكن حين يقترب من هذه المنطقة الآخرون تتحرك مباحث الأموال العامة، ومباحث ونيابة أمن الدولة، حتى لو تعلق الأمر بنائب يمتلك حصانة برلمانية .
أما الخطيئة الثانية فهي من نصيب النظام السياسي المصري، لتضاف إلى رصيده المعتبر من الخطايا، إذ لا يكف عن صناعة "أصنام" من العجوة، لا يلبث أن يلتهمها حين تراوده شهوة التلويح بـ "عصا العزّ"، والأسوأ أنه لا يتعلم من خطاياه، ويبدو أنه ليس مؤهلاً لذلك.
وأخيراً فإن بقية الخطايا من نصيبنا جميعاً، أقصد هؤلاء الذين يطرحون أنفسهم كنخب طليعية تتقدم مجتمعاتها، بينما لا يترددون لحظة واحدة في الركوع ـ وربما السجود ـ في محراب الدولة، لدى أول إشارة من رموش هذه اللعوب القاسية، التي طالما كسرت قلوب محبيها، والتهمت أبناءها، وخانت العشرة مهما طالت .
والله غالب على أمره

Nabil@elaph.com