سؤال يطرح ذاته: كيف تدهور الوضع اللبناني بهذه السرعة، ومَن هو المسؤول عن ذلك؟ وكيف يمكن إصلاح الوضع بما يضمن مصلحتنا القوميَّة في كلٍّ من لبنان والجمهوريَّة العربيَّة السوريَّة، وبما يعكس قدرة على مواجهة تداعيات الهجمة الأميركيَّة الإسرائيليَّة في الهلال السوري الخصيب؟
نطرح السؤال من زاوية اجتماعيَّة قبل طرحه من زاويته السياسيَّة. فإذا كانت السياسة هي "فن تحقيق الأغراض القوميَّة"، والقوميَّة لا تقوم بدون اجتماع بشري نستطيع أن نلمسه بكلِّ أبعاده، يصبح بإمكاننا تعريف السياسة، في شقَّها الداخلي، على أنَّها فنُّ إدارة المجتمع.
السياسة التي نتكلَّم عنها ليست هذا الكم الهائل من الصخب والتشاتم الذي ينتجه الساسة اللبنانيُّون موالاة ومعارضة، بل حتَّى بعض الذين يصنِّفون أنفسهم في خانة "كبار" الصحافيِّين والمثقَّفين. إنَّها قراءة موضوعيَّة لوجودنا الاجتماعي واستنباط سياسات تحمي هذا الوجود وترقِّي حياته.
أكبر خطايا، بل جرائم بعض السياسيِّين والمثقَّفين والصِّحافيين اللبنانيِّين، محاولتهم الدائمة لإعادة ترسيم الواقع الاجتماعي بما يخدم مصلحة آنيَّة: يغضب سياسي من "مسؤول أمني"، فلا يعود ثمَّة "شعب واحد في دولتين"، وهي مقولة سبق للسياسي أن نادى بها، بل شعبان "سوري" و "لبناني" من الضروري فصل مسار الحياة بينهما. أمَّا انعكاس مثل هذه الخطاب على الامتداد العائلي للبنانيِّين في الأراضي الشامية والعكس، فهذا ليس شأنه. فليقف أولئك السوريُّون الأغراب على أبواب السفارة اللبنانيَّة التي يدعو لها صاحبنا، وليحصلوا على تأشيرة دخول.
فجأة، يتخلَّى نصف الانعزال اللبناني الجبلي عن عقيدة "فينيقيَّة" اشتغل على صوغ أسطورتها لمدَّة عقود، وأدخل البلد على أساسها في أتون حرب أهليَّة دمَّرته. فالنصف الآخر من الانعزال اللبناني في الجبل قد خلع عنه ثوب الانفلاش العربي، وبات يزايد على القائلين بالفينيقيَّة في "لبنانيَّته"، فمن الضروري الالتقاء وإيَّاه في نصف الطريق والعمل معًا على ضرب "العدوِّ" السوري المشترك.
لا بأس، هذا هو حال السياسة اللبنانيَّة مع أمثال هؤلاء السياسيِّين والمثقَّفين والصحافيِّين. غير أنَّ همُّنا من نوع آخر. نحن لا نقول بمسارين "لبناني" و"سوري". بل انطلاقًا من اعتبارنا أنَّ بيروت ودمشق وبغداد وعمّان والقدس ما هي سوى مدن داخلية في بلد واحد، مجتمع واحد، ترانا لا نتكلم عن مسارين ولا عن جيشين ولا سياستين.
نعود إلى السؤال الأساس. ما الذي حصل؟ يخطئ في تقديرنا من يقارب السؤال من منطق أن "شيئًا" حصل في الثلاثة أشهر الماضية أوصلنا إلى هنا. ما حصل هو أن الذي كان يجب أن يحصل لم يحصل. والذي كان يجب أن يحصل، بدعم من الجمهوريَّة العربيَّة السوريَّة، هو إلغاء النظام الطائفي، وإطلاق المجال للقوى المدنيَّة وليس المذهبيَّة لكي تقود البلد في مرحلة انتقاليَّة تخرجه من نظام الطوائف إلى نظام المواطنة. فإذا ببنود "الطائف" الطائفيَّة المؤقَّتة تصبح بنودًا طائفيَّة مستمَّرة، وها نحن اليوم ندفع الثمن.
لا يمكن أن يُجنى من شوك الإقطاع السياسي والطائفي ثمار المواطنة الحقَّة القائمة على المساواة والعدالة. رعاية هذا الشوك هو الخطأ الأكبر الذي نجني غلَّته شوكًا بشوك.