جريمة كبيرة يرتكبها "نمط" سياسي عربي واحد

سأترك التفكير بالشعر وبالقصة؛ سأترك التفكير بكل عالمي الوجداني الداخلي لكي أنهمك بالحزن على مقتل هذا الرجل الجميل، السياسي الليبرالي العربي الجديد بتلك الطريقة البشعة. كيف يمكن التفكير بإطفاء شعلة متوهجة في هذا الظلام العربي الدامس؟ أية عقول تعمل في الأقبية، مُصابة بمرض كراهية النور والخوف من الظهور التي خططت لارتكاب هذه الجريمة الكبيرة؟ الطريقة مشابهة تماما من ناحية جميع الأدوات والتقنيات تلك التي صرعت الرئيس اللبناني بشير الجميل عام 1982. الفارق شاسع هذه المرة. ليرحم الله جميع القتلى وجميع الموتى الشهداء، ليرحم الله جميع الأحياء الذين سوف تذهب أرواحهم في هذا الأتون المدمر القادم الجديد.
لا يستحق رفيق الحريري هذه الطريقة البشعة من الموت؛ لا كمواطن لبناني عادي ولا كرجل أعمال ناجح ولا كسياسي تبوأ أعلى المناصب في الحكومة اللبنانية. والحال يقول بوجود عقول بشعة من شأنها اغتيال وقتل جميع هذه الفعاليات من مختلف المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية من غير رحمة. "الرحمة" مفردة لا تعرفها هذه الوحوش الضارية المختلة التركيب اجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا. وهي تفرض وجودها التدميري عبر امتلاكها لأدوات التدمير الرخيصة وتمتعها بسلطة التلاعب بمصير الكائنات البشرية، والمناطق الجغرافية التي تقع تحت سيطرتها الجهنمية المنفتحة على شراهة الدم وقلة الاعتبار للإنسان مهما كان، حتى لو كان نبيا.

العقلية العربية الإقليمية التي قتلت كمال جنلاط، والتي قتلت الرئيس اللبناني بشير الجميل بطريقة أعادت لنا تلك الحادثة بما يقرب من التفاصيل، وغيرهم الكثير من غير الموالين للشقيق الأكبر، هي ذات الطريقة التي لم تزل تحكم هذه العقلية المتخلفة بالرغم من جميع الواقعية التي لا يرغب بسماعها أولئك التلامذة المتخلفون الساقطون في مادة لتاريخ والحساب والجغرافيا والسياسة بالمحصلة. لا يتعظون من تجربة العراق وما آل إليه فيه المآل. لا يقتلون المتعاونين الحقيقيين مع إسرائيل، لكنهم يقتلون كل من تسول له نفسه الاعتراض على سوريا ووجودها غير المبرر على الأراضي اللبنانية حتى عن طريق فائدة الطرفين وتقديم النصح. أو حتى عن طريق المحبة.
لعب صدام حسين في الساحة اللبنانية لعبه الجرثومية الخبيثة وفرخ الكثير من أشباحه وأشباهه الذين هاجمتم الجماهير بعفوية عند مقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري بكل هذا القدر الرهيب من العقل الإجرامي المجرد، لشعورها "الجماهير" بمسؤوليات تلك الرموز عن هذا الحادث الخطير. وجنرال مثل ميشال عون القاعد في باريس هو لعبة من لعب سياسة البعث العراقي، كما غيره من العساكر والساسة اللبنانيين ممن هم بيادق صغيرة مطواعة بيد البعث السوري. هذه أضحوكة ونكتة سمجة. لا يوجد بعث ولا هم يحزنون. كلما نتوفر عليه مجموعة صغيرة من القتلة والجلادين الموغلين بسفك الدماء وتعذيب الناس بحالة طبيعية من التلذذ بالقتل الإجرامي السهل الذي لا يرتوي من الدماء. سبي الناس على طريقة الحجاج بن يوسف الثقفي وزياد أبن أبيه وعبد الملك بن مروان وصدام حسين وعلي كيمياوي الذين يولع بمحبتهم الآن حزب لبناني نال إعجابنا في يوم ما، وهاهو يسقط كدمية أخرى من دمى الأنظمة المتخلفة المتسلطة في المنطقة. هذه الجريمة البشعة يقدمها ضابط مخابرات من الطراز العصابي الرفيع معتقدا أنها خدمة جليلة لرئيسه ومولى نعمته. لا تنفع تصريحات أبو ردنية أو قريع أو موسى في الجامعة العربية، ولا نعي الرؤساء والسلاطين العرب لهذه الضحية الغالية. رفيق الحريري ليس بشير الجميل وليس رنيه معوض وليس رجال يتهددهم القتل كل يوم. هذا الرجل كان مشروعا متوازنا يحمل في طياته الكثير من المشاريع الجدية، السياسية والاقتصادية التي تخص لبنان واللبنانيين. ضابط مخابرات مختص بالشأن اللبناني لفترات طويلة هو من أقدم على فعل هذه الجريمة المهولة. حتى لو يبكي الرئيس، وحتى لو يتباكى الوزراء الهامشيين في دولة العصابات الصغيرة. هم بعيدون عن مركز القرار الإجرامي، قرار العصابة من المافيا التي تعمل في الأقبية والظلام، حيث لا قيمة للإنسان مهما كان.
مَنْ تجرأ على قتل رفيق الحريري وأتخذ هذا القرار ووظف له الإمكانيات، جميع الإمكانيات التي تقع تحت تصرفه وفي نطاق سلطاته هو شخص مجرم خطير يجب أن ينال عقابه العادل.
النظام السوري يعلن براءته من هذا العمل الجبان. هذا يمكن فهمه جيدا من خلال نكران هذه النظام وأجهزته القمعية التي لا زالت تمارس سياسة القرون الوسطى، وتفرج عن سجناء الرأي بالقسطاط في المناسبات الوطنية الخالدة، وهي عبارة عن تسلم الأب مقاليد الحكم، وتاريخ موت الأب القائد، وتاريخ تسلم الابن لمقاليد الحكم، وتاريخ البيعة وتاريخ النصر.. وعيد الفطر..
العقل الذي قتل السياسي اللبناني المعتدل رفيق الحريري هو ذات العقل المريض، الذي يتحول بالتدريج إلى سرطان خبيث يفتك بالساحة السياسية العربية ويصيبها بالتلف والهوان. هذه الخلايا السرطانية السياسية الخبيثة التي لا تمتلك لا المؤهلات ولا المصداقية ولا الشرعية للحكم في ربوعها وحيزها الجغرافي أصلا، وهي غير قادرة، تبعا لهذه المعادلة، الهيمنة ومن ثم قيادة جماهير وأوطان وشعوب حرة بأفكار قومية ودينية ملفقة بسيطة وبليدة ومتخلفة، وشعارات أيدلوجية كاذبة ليس لها سند في التاريخ إلا ما أنحط منها ونال الجزاء العادل في ذاكرة الشعوب، هذه الأكاذيب الحاكمة سيفلقها مقتل رفيق الحريري ويشطب على وجودها للأبد.
هذه الأنظمة، من العيب القول "أنظمة"؛ هذه العصابات الإجرامية الحاكمة قوميا، والملفعة دينيا بالعمائم المزيفة، التي انتفخت أوداجها وهي ترتع بالتسلط على مقاليد الدول والشعوب ومقدرات العباد سيطردها دم رفيق الحريري البريء.
كان دور صدام المجرم بالأمس، واليوم يحين دور المجرمين الصغار. إن غدا لناظره قريب.