ما أن تناهى إلى أسماعنا خبر الانفجار في بيروت في بواكير ساعات صباح الاثنين في أوتاوا حتَّى تبادر إلى أذهاننا "مخطَّط مؤامرة" اغتيال أمن لبنان ومستقبله وسلامته، ولا سيَّما بعد أن اشتدَّت المعركة الكلاميَّة بين مؤيِّدي الحكومة ومعارضيها على الفضائيَّات اللبنانيَّة، وبتنا نتحسَّب لحدوث أمر مَّا كي يُشعل فتيل القتال الذي قد يأخذ طابعًا مذهبيًّا، و"تضيع الطاسة" وتضيع معها وحدة لبنان، ويضع كلٌّ من الذين يتَّخذون من حريَّة لبنان وأمنه ذريعة لهم لتحقيق مآربهم جريرة ما حدث على الآخر. لم يطل الوقت، حتَّى علمنا الخبر المفجع الذي لم يكن في الحسبان أبدًا، تأكيد استشهاد الرئيس رفيق الحريري تغمَّده الله بواسع رحمته وغفرانه. وبسرعة البرق سرى الخبر، فعلم به القاصي والداني. التصقنا بشاشات التلفزيون ننتقل من فضائيَّة عربيَّة إلى أخرى "حتَّى إذا لم يدع صدقُه لنا أملاً شرقنا بالدَّمع حتَّى كاد يشرق بنا." وما هي إلاَّ هنيهات حتَّى أخذنا "نحلِّل" ونتساءل مَن المُخطِّط لهذه الجريمة المروِّعة، ولمصلحة مَن! أخذ بعضنا يشير بأصابع الاتِّهام إلى جهة مَّا. وما أسهل ما كان المشجب السوري لمَن قرَّروا إدانة سورية حتَّى لو حصل زلزال في لبنان أن تُعلِّق عليه هذه الجريمة، كما كان أتِّهام محاولة اغتيال النائب مروان حمادة الأخيرة. ولم تأت المعارضة على الرغم من اتَّهامها سورية ببيِّنة واحدة تدعِّم مزاعمها.
(من العجب أنَّ فضائيَّة (إل بي سي - LBC ) المحطَّة اللبنانيَّة المفضَّلة للمعارضة تناولت الخبر أوَّل يوم، وكأنَّ الشهيد الحريري من دولة جزر القمر، بينما الفضائيَّات اللبنانيَّة الأخرى ألغت معظم برامجها الترفيهيَّة، وخصَّصت معظم أوقاتها لتغطية الحادث الآثم والجريمة النكراء. في مساء الاثنين في أوتاوا – صباح الثلائاء في بيروت، بينما كنت في منزل أحد الأصدقاء نتابع الفضائيَّات اللبنانيَّة، نتنقَّل من واحدة لأخرى، كانت ما تزال (إل بي سي) تعرض برامجها متجاهلة الخبر الأليم، وإذا بنا نشاهد منظرًا لرجل وامرأة في فراش واحد يتطارحان الهوى والغرام! بينما خصَّصت الفضائيَّات الأخرى أوقاتها إمَّا لتلاوة الذكر الحكيم، أو لعرض سيرة الراحل العظيم.)
قبل أن يخامرني الشك، أو أجد نفسي فريسة الأوهام، أو تحليلات "المفكِّرين" العرب، أو محتكري العلم ببواطن الأمور، تذكَّرت حكمة تعلَّمتها من المجتمع الكندي الذي أصبحت جزءًا منه، ألا وهي: تبرئة مائة مقترف ذنب أو جريمة خير من تجريم بريء واحد." اقترحت على عددٍ من الزملاء والمهتمِّين بالشأن العربي احترافًا وليس هواة، كحال الذين يصبحون "محلِّلين" بين عشيَّة وضحاها، أن نتريَّث حتَّى مساء أوتاوا ونستمع إلى ما نتمكَّن من أخبار وتعليقات مسؤولي الحكومة اللبنانيَّة والمعارضين، وكذلك آراء الساسة والمحلِّلين في دولٍ غربيَّة كالولايات المتَّحدة وفرنسا وغيرها لنخرج بالتالي برؤية واضحة نتمكَّن معها من تحكيم العقل لا العاطفة، وندلي بدلائنا دون أن نفقد احترام القرَّاء، واحترام أنفسنا مستقبلاً فيما لو كانت نتيجة التحقيقات غير تلك التي تمَّ التوصُّل إليها بعد ساعات قليلة من سماع خبر استشهاد الرئيس الحريري.
الرئيس بوش والرئيس شيراك وكبار مسؤولي الإدرارتين الأمريكيَّة والفرنسيَّة والمحلِّلين السياسيِّين، وكذلك سفير أمريكي سابق في لبنان، على الرغم من مواقفهم المسبقة من الوجود السوري في لبنان، وإصرارهم على تنفيذ قرار 1559، لم يتَّهم جهة معيَّنة، وتحديدًا الحكومة السوريَّة، وطالبوا بتحقيق دوليَّ. مقابل ذلك، إذ بالمعارضة اللبنانيَّة، على الرغم من تناقضاتها المصلحيَّة الذاتيَّة، ولا يجمعها إلاَّ قاسم مشترك واحد هو الوجود السوري في لبنان، تؤكِّد بطريقة غوغائيَّة أن سورية هي وراء الجريمة! من الطبيعي أن يحاول السياسي اليائس استغلال أي أمر لكسب سياسيٍّ يحقِّق معه أغراضه. ولا عجب فإنَّ مَن يسعى لإيجاد مكانٍ له في الوطن، غير الذي يسعى لإيجاد مكانٍ مَّا لوطنه بين الأمم.
لم نُعر كثير اهتمام لتحليلات "المفكِّرين النوابغ" الذين توصَّلوا لمعرفة الجاني بعد دقائق من وقوع الجريمة، وحاولنا إيجاد ضالَّتنا في كتابات الصحَّافيِّين العرب، ولا سيَّما أولئك الذين يعيشون مثلنا في مجتمعات غربيَّة ينعمون بالحريَّة، ولا يخافون مغبَّة كتاباتهم إذا ما تعارضت مع ما يطرحه رجال الحكم وأبواقهم الدعائيَّة في الدول العربيَّة. من الطبيعي أن تكون "إيلاف" وسيلتنا في ذلك. وبالفعل قرأنا فيها الأخبار والتعليقات الموضوعيَّة ووقفنا على آراء عددٍ من السياسيِّين وأفراد الشعب الذين غالبًا، إذا لم يكن دائمًا، التعبير عن آرائهم بانفعال وعاطفة، ولا يُلامون في ذلك.
لفت انتباهي، مقال لزميل في "إيلاف" يؤكِّد من خلال "تحليلاته" التي استنتج منها أنَّ كلَّ "المعطيات" تؤكِّد أنَّ سورية وراء اغتيال الحريري. للحقيقة، قرأت المقال علَّني أجد فيه ضالَّتي! لشدَّ دهشتي، وجدت أنَّ الكاتب في أوَّل جملة له أوصل المتلقِّي لما يريد، وكأنَّه يقول: لا حاجة بك للتفكير، أنا أسهِّل عليك ذلك، وهاك الحقيقة المجرَّدة. استشهاد الحريري إذًا، كما يريد المقال، كان لفتح الملف الوجود السوري في لبنان! وبما أنَّ القاتل "سوريٌّ"، كما يؤكِّد المقال، فإمَّا أنَّ المسؤولين السوريِّين في قمَّة الغباء لارتكاب مثل هذه الجريمة الآثمة بأحد أهم أعمدة السياسة اللبنانيَّة، وصديق كبير لسورية، أو على الأقل في الوسط، بين الموالين والمعارضين الآن، وتسرِّع خروجهم من لبنان، أو أنَّ القرَّاء في قمَّة الغباء ليُقادوا معصوبي الأعين خلف "معطيات" مبهمة. وإن كانت الكلمة "معطيات" بحدَّ ذاتها لا تعني ما يريد الكاتب إثباته في ذهن القارئ. وهذه الكلمة أيضًا بصيغة المفرد أو الجمع في لغتنا العربيَّة التي يجيدها كاتب المقال، لا معنًّى لها في موضوع المقال.
إلقاء التهمة على سورية وتجميلها هذا الجرم اللعين، يُسدل الستار على الجريمة، ويضيع الحقُّ، وهذا ما يتمنًّاه الفاعل الحقيقي والمجرم الذي أراد اغتيال لبنان بقتل الرئيس الحريري. فهل هذا ما تريده المعارضة اللبنانيَّة بمشاربها واختلافاتها التي لا حصر لها! من المؤلم أن نقرأ ونسمع ما تقوله المعارضة على ألسنة مدَّعي تمثيلها وتتلخَّص جميعها باستغلال مقرفٍ ورخيص لجريمة نكراء راح ضحيَّتها الرئيس الحريري الذي لم يكن معهم كما يدَّعون، ليشتروا به ثمنًا بخسًا. وفي حمأة سكب مشاعرهم على الفقيد، وجام غضبهم على سورية، راحوا يطالبون بفتح ملفٍّ دوليٍّ لمعرفة الجاني، علمًا بأنَّهم، وكاتب المقال الذي أشيرُ إليه تأكَّد لديهم مَن القاتل! مفارقة غريبة!
الجريمة الكبرى التي يمكن استنتاجها من استشهاد الرئيس الحريري، لا تنحصر فقط في الشهيد، بل تمتدُّ لتصل لبنان بأكمله، فهذا أحد "أقطاب" المعارضة" اللبنانيَّة الذي كان لوقت قريب ألدَّ أعدائها، لا يكتفي بتحقيق دولي، على الرغم من تأكُّده من الفاعل، لكشف حقيقة الجاني، مع أنَّه سكت عن جريمة قتل والده لعشرات السنوات، وتذكَّر الآن أن يقاضيه، أخذ يُطالب بحماية دوليَّة للبنان! نرجو ألاَّ تكون إسرائيل ضمن الدول التي لا يُمانع في استضافتها لحماية "ديمقراطيَّة" لبنان، وتخليصه من حكومته الشرعيَّة والوجود السوري.
في مقابل ذلك، استمعنا لتصريحات وزير الداخليَّة اللبنانيَّة وشاهدنا المؤتمر الصحافي الذي ضمَّ كلاًّ من وزير العدل والإعلام. كانت تصريحات مسؤولة بعيدة عن الغوغائيَّة. وسيَّان بين جلبة أصوات المعارضة وعقلانيَّة الحكومة اللبنانيَّة في مواجهة مشهد أليم إذا لم يُتدارك وتتَّضح هويَّة الجاني، قد يسفر عن عواقب لا تُحمد.
إذا كانت المعارضة مطمئنَّة للفوز في الانتخابات القادمة، فلتترك الأمر للناخب اللبناني لتقرير مستقبل لبنان. أمَّ أنَّ الشعب اللبناني أكثر الشعوب العربيَّة رقيًّا لا يمكن له أن يقرَّر مصيره إلاَّ بوصاية أو وجود قوَّة "احتلال"، أسوة بالشعب العراقي!
الأجدر بالمعارضة أن تتعاون مع الحكومة لمعرفة الجاني، خيرًا من أن تؤجِّج نار الفتنة من حيث لا تريد. والأجدر بكتَّابنا و "مفكَّرينا" أيضًا ألاَّ يكونوا الخصم والحكم. ديمقراطيَّة القتل والاغتيالات لن تستفيد منها لا الحكومة ولا المعارضة، وسيكون الخاسر الأكبر فيها لبنان أرضًا وشعبًا. وما أروع وأنبل ما لخَّصه الوزير سليمان فرنجيَّة عندما أشار على الشيخ بهاء الدين الحريري، نجل الشهيد بألاَّ يؤخذ بنصائح المغرضين الذين همُّهم الكسب الرخيص بموت شهيد لبنان والعرب، والوطن أبعد ما يكون عن ادِّعاءاتهم. ولخصَّ ذلك بالاستشهاد بحادثة اغتيال والده، وبأنَّ رهطًا من مدَّعي الحرص عليه وعلى لبنان أرشدوه إلى مرتكبي الجريمة، تمامًا كما هو الحال مع الشيخ بهاء. لم يعتدّْ الوزير ولا جدَّه الرئيس سليمان فرنجيَّة رحمه الله بما ادَّعوا، ولم يحقِِّق لهم مآربهم. ونرجو مخلصين أن تكون الحكمة رائد الشيخ بهاء، ويتذكَّر قولَ الرحمن: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ."
ملاحظ: يبدو أنَّ فضائيّة (إل بي سي) تداركت الأمر في اليوم الثاني – (الثلاثاء)، وخصَّصت برامجها لنقل مباشر للتعزية في دارة الشيهد الشيخ رفيق الحريري مركِّزة على "وجوه" المعارضة الذين أصرُّوا على الالتصاق بعائلة الشهيد.
"إِذَا اشْتَبَهَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍتَبَيِّنَ مَنْ بَكَى فِيمَنْ تَبَاكَى"

أوتاوا – الاثنين 16/02/2005
* رئيس المركز العربي الكندي للثقافة والإعلام
[email protected]