اجمعت كل التحليلات التي تناولت جريمة اغتيال الحريري على امر رئيس وهو ان اغتيال شخصية بوزن الحريري سيكون علامة فارقة في تطورات ومسار الاحداث في المنطقة وخصوصا سوريا ولبنان ويمكن الاضافة استتباعا علاقة اسرائيل (والعلاقة بها )وتأثرها بهذه التطورات إلا ان التطورات تبدو اسرع مما ظن الكثيرون وإذا كانت قد بدأت بالمطالبة الفرنسية بفتح تحقيق دولي فهي لم تتوقف عند استدعاء السفيرة الامريكية في دمشق ولم تنته بتصريح وليم بيرنز بضررة الانسحاب الفوري والسريع من لبنان
ويمكن في قراءة غير مستعجلة لعملية الاغتيال ان نقول : ان من يقف وراءها لازال يؤمن بأن العنف شكل متماهي مع المقدس و/ أوالحقيقة فالعنف كأداة يصبح هنا مطلقا شأنه شأن المقدس يعلو على الزمان والمكان ويمكن ان يستخدم كفاعل مؤثر خارج سياق الظروف المحيطة وتأويلاتها ويكتسب شرعيته من حضوره الفاعل على ارض الحدث منتزعة من سياق المكان المحيط وكذلك يعلو على الزمن فلا يؤمن بتحولاته التي تجعل حادثة كهذه خارج سياق الراهن وادواته
ان الايمان بهذه الوسيلة( العنف ) واستخدامها تنم على ان من قام بهذا الفعل (كجهة راعية و/ أو منفذة) هي عقلية خارج التحولات التي تجري في العالم وغير قادرة على ادراكها فهي تعتقد ان الاغتيال هو الاغتيال في اي زمان واي مكان وعلى هذا فقد حسبت ان ردة الفعل ستكون مشابهة لردة الفعل في عام 77 حين اغتيل كمال جنبلاط او عام 82 عندما اغتيل بشير الجميل و حتى عندما اغتيل رينيه معوض ... ان عدم وعي هذه الجهة للتحولات التي جرت على الارض في العالم هو ما جعلها تجرؤ على ان تقوم بهذا العمل
واذا كان احد السياقات الممكنة لتساؤل تلك الجهة هو ان ماسيحدث هو اما ارباكا وتبديدا لما هو قادم او تسريعه في اسوء الاحوال وتأتي هذه القراءة وفق مقايسة ماضوية تتحكم بالعقل الذي يقف وراء هذه العملية قياسا وتحليلا
الطاولة الثالثة
اذا كان الحريري قد مازح الصحفيين قبل رحيله بدقائق في مقهى «ليتوال» قبالة المجلس النيابي انه سيختار طاولة ثالثة بين القرار 1559واتفاق الطائف (الحياة 15/2 ) في جملة بالغة الدلالة والوضوح على موقفه فان الجهة التي تقف وراء الاغتيال تعرف هذا غير انها لاترى مكانا لطاولة ثالثة في الساحة اللبنانية واذا كان الصحفيون في المقهى قد انضموا الى الطاولة الثالثة التي جلس عليها الحريري فان الجهة الراعية والمخططة والمشرفة على هذه العملية اغتالت الحريري لانها تعرف ان لبنان كله سيلتف حول موقف الحريري وعندها ستتحول حال المعارضة (ومطالبها ) من مطالب نخب سياسية مدعومة قليلا على الارض الى حالة شعبية عامة مدعومة بثقل الرجل وعلاقاته الدولية وعندها سيسير الوضع الداخلي اللبناني باتجاه حسم واضح داخليا وكذلك دوليا في صيغة ما لتطبيق القرار 1559 فقررت هذه الجهة القيام بضربة استباقية عبر عملية نسف الطاولة الثالثة التي يمثلها الحريري بعملية مافيوية بشعة
تشابكات تطرح نفسها
اذ يلحظ السوريون واللبنانيون ايضا على الارض حجم المصالح المتكونة لمجموعات سورية ولبنانية متنفذة داخل لبنان والذي يمثل حدها الادنى استمرار النهب المستمر في الدولتين واستمرار العمل بنظام مافيوي ما زال يعتمد النظام الريعي والبلطجة في تحصيل أموالها ، ولها موارد رزق حقيقية في لبنان وعن طريقه ألا يشكل انسحاب سورية من لبنان عبر الصيغة التي كان من الممكن الوصول اليها عبر لارسن " او حتى تم التوصل اليها " تهديداً بقطع ارزاقها ، وقد كان انضمام الحريري إلى المعارضة سيضمن للمعارضة فوزاً ساحقاً في الانتخابات القادمة ولن يكون غريباً إن طالبت المعارضة بإلغاء التعديل الدستوري الذي ضمن الولاية للحود أو على الأقل طلب الاستقالة من لحود ، وهذا سيضعف بالطبع قدرة الأجهزة الأمنية والعسكرية كلها في لبنان، ويعني أن الحريري سيكون رئيس الحكومة القادم بدون منازع وصاحب القرار الاقتصادي الأول والأخير في لبنان ، مدعوما بصيغة توافقية دولية وكذلك التفاف شعبي داخلي مع ما ترافق من تغير وجهة نظر الحريري باليات سير العلاقة السورية اللبنانية التي كان رأيه الاخيرفيها ان هذه العلاقة لا يحميها وجود الجيش السوري في لبنان.
ماهو الثمن
في قراءة سريعة مجمع عليها وتتالت عبر البيانات والتصريحات الصادرة منذ عملية الاغتيال الى الان يمكن القول ان المطلوب على مستوى لبنان اصبح التالي :
انسحاب القوات السورية ومخابراتها من لبنان " بشكل سريع وفوري " وقبل الانتخابات المقبلة وبصيغة لم يعد تلبيها توافقات القرار 1559
رفع الوصاية السورية عن لبنان بشكل يضمن قيام دولة لبنانية ذات سيادة كاملة يجري التعامل بينها وبين سوريا على اساس احترام هذه السيادة
رفع غطاء الدولة اللبنانية (بوصاية سورية) عن المليشات اللبنانية وغير اللبنانية المسلحة على الارض مما يعني تفكيك سلاح حزب الله بشكل رئيس الذي كان الحريري الراحل حتى اللحظة الاخيرة يحاول فك الارتباط بينه وبين القرار 1559 ومحاولا اقناع الفرنسيين بشكل خاص بهذا
سوريا والاستحقاقات القادمة
اذ يرى ( البروفسور ايال زيسر رئيس دائرة تاريخ الشرق الأوسط، جامعة تل أبيب أن السوريون هم الذين سيدفعون ثمن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، حتى لو لم يقفوا عمليا خلفه، إذ أنه مع قتل الحريري سحب البساط من تحت الحجة المركزية لتبرير استمرار وجودهم في لبنان والتي تقول أن هذا الوجود هو ضمانة لاستمرار الاستقرار والحفاظ على الأمن في هذه الدولة. ) فان هذا القول يبدو منطقيا امام تسارع الاحداث منذ اغتيال الحريري وحتى الان واذا كان بعض المتابعين للشان السوري يرى ان السوريين قادرين على تقديم الثمن المناسب في الوقت المانسب في اي عملية ضغط حقيقية يتعرضون لها ، واذ يمكن القول ان التفاهمات التي تمت عبر لارسن(مبعوث الامم المتحدة ) الذي كان في المنطقة في محاولة لايجاد صيغة توفيقية لتطبيق قرار مجلس الامن قد تجاوزتها الاحداث بعد اغتيال الحريري مهما كانت صيغتها وفحواها
واذا كانت ردود الفعل السورية على استدعاء السفيرة الامريكية في دمشق ، وكذلك على التصريحات الدولية واللبنانية تنم عن ان المسؤولين السوريين لم يعوا بعد الحجم الحقيقي لعملية اغتيال الحريري ولا الوضع المعزول الذي اصبحت سوريا فيه (سواء كانت مسؤلة عنها ام غير مسؤولة ) ولم يعوا ان الية التعامل معها يجب ان تكون مختلفة وعلى مستوى حدث كهذا فان عليهم ان يدركوا ان الخيارت اصبحت ضيقة ولا يكون الرد المانسب على هذه الاحداث المتسارعة هو الاعلان عن قيام جبهة سورية ايرانية لموجهة الضغوط (والتحديات!! ).
لكن التساؤل الذي يطرحه البعض مشككين عما اذا كانت امريكا ستمضي في الشوط الى نهايته في تعاملها مع السلطة السورية يبدو منطقيا من تجارب سابقة تعتمد على ان امريكا كانت تتوقف عن الضغط على هذه السلطة كلما قدمت ثمنا مناسبا .. لكن السؤال الان ماهو الثمن الذي يمكن ان تقدمه سوريا كي تتوقف هذه الضغوط الامريكية وهل سيكون الفرنسيون مستعدين لمسايرة التوقف الامريكي ( ان حدث ) على اعتبار ان فرنسا تعتبر سوريا ولبنان احد مناطق وصايتها او انها على الاقل تشعر بمسؤولية من نوع ما اتجاه لبنان الذي هو احد دول الفرانكفونية
وهل سيكون الانسحاب السوري من لبنان وتفكيك سلاح حزب الله واحترم السيادة اللبنانية كافيا لتوقف هذه الضغوط في حال استجابة السلطة السورية لهذه المطالب ام ان المطالب ستنتقل الى الداخل السوري من المطالبة باصلاحات سياسية حقيقية تتيح للشارع السوري ان يحدد مصيره عبر ارادة صناديق الاقتراع مثلا وعبر اقرار قانون احزاب حقيقي يجعل صيغة الجبهة التقدمية الوطنية وقيادة البعث لها امرا من الماضي.
كاتب سوري
التعليقات