الخطوة المصرية كفاتحة

اثار طلب الرئيس المصري من مجلس الشعب المصري دراسة تعديل المادة 76 من الدستور قبل موعد الانتخابات الرئاسية المزمع اجراؤها في ايلول/ سبتمبر من العام الجاري، بحيث يتسنى انتخاب رئيس الجمهورية بـ "الاقتراع السري المباشر"، مفاجأة من العيار الثقيل ليس في الشارع المصري فحسب بل في كل الشارع العربي. وإذ ينظّر كثير من المحللين لهذه الخطوة كأستجابة لمطالب الحركة الديمقراطية المصرية وليس للضغوط الخارجية، وانه ربما كان هدف الرئيس المصري من وراء هذا التعديل الجزئي في الدستور، تفريغ مطالب المعارضة الداخلية بتعديلات دستورية أكثر عمقا واتساعا أو حتى بدستور جديد بالكامل. وإذ تأتي هذه الخطوة معزولة ومفردة عن سياق شامل للاصلاح السياسي والاقتصادي والدستوري الذي اصبح ملحا ليس لمصر وحدها بل لكل البلدان العربية فأنها تبدو اكثر من مهمة إذ انها تشي ان هذه الانظمة التي بدا انها لاتحول ولاتزول تبدو قابلة للتحول (ارتجالاً ) ولا يهم هنا ان كانت هذه القابلية تأتي استجابة للخارج ام للداخل الا انه ومع ملاحظة الضغوط الخارجية التي بدأت تتكثف من امريكا اتجاه اصدقائها في المنطقة (خطاب بوش / تصريحات مسؤولين امريكيين اخرين....الخ ) تطالبهم بالاصلاح الديمقراطي الداخلي، لا يمكن تجاهل حركة الشارع المصري ذاته وحراكه إذ تشكلت منذ اكثر من عام حركة شعبية تضم مثقفين ونقابيين وكتابا وصحافيين باسم "الحركة المصرية من اجل التغيير" وجعلت شعارها الاساسي "كفاية" في اشارة الى رفضها التجديد للرئيس المصري لولاية خامسة ورفضها لـ توريث الحكم لنجله.

لبنان منعطف أول و آخر
وفي لبنان جاءت الاحداث متلاحقة بعد اغتيال الحريري ونزول الشعب اللبناني الى الشارع وارتفاع سقف مطالب المعارضة مدعومة من كل المجتمع الدولي ليتوج هذا بأسقاط حكومة عمر كرامي تحت قبة البرلمان غير ان الشارع اللبناني لازال في الشارع فيما يبدو انه الحصانة الاكثر اهمية لقوى المعارضة لفرض مطالبها على الحكم، وسيكون هذا الشارع هو الوحيد القادر على اختصار زمن التحولات وايجازه وتكثيفه، وربما ستشهد الايام القادمة اسقاط الرئيس اللبناني بنفس الطريقة لو سارت الامور الى جهة لا تلبي مطالب الشارع / المعارضة، وقد كان رهان المعارضة عليه او دعم هذا الشارع لها بيضة الديك او القشة التي قسمت ظهر السلطة وكسرت ظهر تلازم المسارين واخرست المهللين بحرب اهلية فيما لو انسحب الجيش السوري.

سوريا والجمود المزمن
وإذ يبدو النظام السوري اكثر جمودا من النظام المصري، بل ان استجاباتهما غالبا مختلفة للضغوط الداخلية والخارجية إذ كان النظام السوري يبدو دائما اكثر ممانعة لمطالب الداخل والخارج مما يدفع الكثيرين للقول انه كلما ازدادت المطالب والضغوط على النظام السوري كلما ازداد رفضه وعناده وكان غالبا يترك الزمن يتكفل بحل هذه المطالب التي تصبح عالقة، واذا كان النظام المصري عبر تاريخه يظهر دائما استجابة ما للمطالب الداخلية حتى أيام عز ثورة يوليو كما حدث بعد هزيمة 67 ومظاهرات الطلبة... فأن النظام السوري ظل عصيا على الرضوخ لأي مطلب داخلي عبر عمره المديد وان كان يتبنى الاستجابة الحرجة للضغوط الخارجية عندما تصل النقطة الى اللا عودة (قضية اوجلان مثالا ).

عودة للبداية:
شكل بداية حكم الرئيس بشار الاسد تفاؤلا للشارع السوري ولم يتأتى هذا من فراغ بل جاء عبر قراءة لخطابه قبل وصوله للسلطة وبعدها ايضا وبدء الحديث عن الرأي والرأي الاخر / المشاركة وكانت هذه المفردات غريبة للشارع الذي تفاجئ بها. الا ان هذه التفاؤل حين تحول حراكا عبر النخب الثقافية (منتديات \ لجان احياء المجتمع المدني \ كُتاب رأي...) تم سحب البساط من تحته وعاد الأمر ليصل للاعتقالات في بداية القرن الحادي والعشرين وكان سهلا سحب البساط من تحت هذا الحراك لان الشارع السوري كان غائبا. ودون الخوض في لما أو اين..؟ يمكن اختصار الامر الى ان هذا الشارع (السوري ) وصل عبر عقود من احكام قبضة الاجهزة الامنية على عنقه إلى ان يعتبر نجاته من البطش وتجنيب افراد عائلته هذا احد اهم المكاسب التي يمكن تحقيقها. واستسلم لهزيمة ممضة امام هذه الاجهزة واعتبرها قدرا لا يحول ولايزول إلا بإرادة الله.... لذا كان ينظر بما يشبه البلاهة والاستغراب لحراك المثقفين وبدا ان هذا الامر يحدث في بروندي وليس في بلاده وعاد كل شيء الى ما كان عليه بقليل من المكاسب ولا يضيرنا ان نعترف ان السلطة هي التي قدمتها اهمها: اصبح يمكن لك ان تكتب رأيا مثل هذا بخشية غير كبيرة من سحل" الاجهزة " لك...

جعجعة الاصلاح وطحينه:
بعد خطاب القسم للرئيس الاسد علت جوقة المطبلين للأصلاح وبين غمضة عين وانتباهتها تحول الجميع الى اصلاحيين ومحاربين للفساد حتى خيل (للمواطن ) السوري ان الفساد والاصلاح شيء يشبه طبقة الاوزون لا يريان بالعين المجردة، وإذ يرى البعض ان عدم تقدم الاصلاح كان نتيجة لسيطرة الحرس القديم على مفاصل (الدولة ) فإني اميل للاخذ باراء الرئيس الاسد نفسه الذي ينفي وجود حرس قديم وحرس جديد وان النظام كتلة متجانسة بتنويعات هامشية بسيطة وفوارق لاترى بل انها لاتصل حتى الى اختلاف لغة الخطاب ذاته. وقد نكص المثقفون عن حراكهم بعد سحب البساط ( الذي مدته السلطة لهم اساسا ) وبعد هجوم شرس وتخويني قاده اعضاء في قيادة البعث واحزاب الجبهة تلته الاعتقالات التي حدثت لعشرة من رموز هذا الحراك وغرقنا في خطاب ( لغوي ) حول مفهوم الاصلاح والنقد البناء والهدام ومن هو الرأي ومن هو الرأي الاخر،( ما هي الثقافة؟! وماذا يعني المثقف وما هو دوره...؟) بل ان وصل الامر بنائب الرئيس "عبد الحليم خدام" بعد الانتهاء من " دوشة " المثقفين وهجومه الحاد عليهم ان يكتب كتابا عن " النظام العربي المعاصر" يتحدث فيه بكل جرأة ووضوح عن( اهمية المؤسسة الدستورية المنتخبة في تحقيق الرقابة والمساءلة ومن تحقيق التوازن والحد من الاخطاء.... شرط ألا تنزلق هذه المؤسسة لتكون احدى ادوات السلطة. او واجهاتها فتضيع المسؤوليات وينمو الخطأ ويعطل القانون وتغيب العدالة ويتقدم الاقل كفاءة ويتراجع الاكثر اهلية فيجد ذو العقل والاحساس نفسه غريبا في وطنه (ص. 54 و في محاضرة نظمتها جامعة قطريتحدث منتقدا ( النظام السياسي العربي الذي لم يعط الشعوب حقها في صنع مستقبلها ) مما يعني ان النظام لم يكتف بالسلطة فقط بل انه احتل ايضا مقاعد المعارضة الغائبة / المغيبة. ويمكن القول ان غياب الادوات السياسية من جانب المثقفين حينها هو ما جعل السلطة قادرة على سحب البساط من تحتهم دون ان يرف لها جفن خوفا من التداعيات التالية وكذلك انشغال المجتمع الدولي بمحاربة الارهاب وطالبان وتاليا بالوضع العراقي الذي أخذ الاولوية.

الان هنا او سوريا مرة اخرى:
في تحذير واضح وجدي للرئيس المصري لنظيره السوري (ان دمشق لن تستطيع ان تواجه الضغوط الدولية تجاهها لجهة مطالبتها بسحب جيشها من لبنان.) والذي أوفد مدير المخابرات عمر سليمان للقاء الأسد للعمل على تخفيف الضغوط الدولية على دمشق،.يمكن ان نتحسس مدى ادراك النظام المصري للتغيرات المتسارعة في المنطقة وانها لا يمكن ان تبقى خارج تنفيذ الضغوط التي بقيت كلاما حتى الان. إلا انه وفيما يبدو من تصريحات المسؤولين السوريين وكذلك أدارة الاعلام السوري لخطابه في هذه الفترة لا يمكن للمرء ان يلحظ ان هناك احساسا جديا بأن الضغوط مختلفة هذه المرة، ففي نشرة الاذاعة السورية الاخبارية كان هناك خبرا رئيسا يتحدث عن بيان لاتحاد العمال الجزائريين يدين الضغوط الموجهة لسوريا!!! كما ان حديث الشرع عن (الضغط الأمريكي غير المسبوق على حكومات دول المنطقة، وأن تلك الضغوط تدعو العرب إلى اليقظة واستعادة تضامنهم ) يمثل استعادة "مستدامة " لخطاب عفى عليه الزمن. وكذلك رد الفعل المزمن على استقالة حكومة كرامي واعتبارها شأنا داخليا... رغم أن الرئيس الاسد في حديثه مع صحيفة " لاريبابليكا "الايطالية رأى ( أن التوتر يتصاعد الى درجة تجعله الان يتوقع هجوما على بلاده (..) وأن واشنطن تمارس ضغوطا على دمشق تماثل تلك التي مارستها على بغداد قبل غزو القوات الامريكية للعراق. ) وإذا كان هذا الخطاب والاليات السياسية المنتجة له والباعثة عليه مقبولا في فترة تاريخية انتهت منذ زمن ليس بعيد فهو بكل تأكيد يبدو خارج اللحظة الراهنة وخارج الفعل السياسي، فاذا كانت مصر قد رضخت للضغوط الخارجية والداخلية وهي لاتقارن بما تواجهه سوريا واذا كانت السعودية تستجيب بشكل او بآخر لمتطلبات الضغوط الخارجية باجراء انتخابات بلدية وغيرها من الاصلاحات فماذا يمكن ان تقدما لسوريا في وضعها الراهن والضغوط المسلطة عليها تزداد من كل الجهات.

مالذي يمكن فعله الان:
إذا كانت قوى المعارضة السورية غائبة تماما كأمر واقع دون الخوض في اسبابه، وإذا كان الشارع السوري هو كذلك ايضا ولا يمكن التعويل عليه كفاعل اساسي في إحداث التغيير أو تسريعه، كما حدث في مصر او لبنان فأن سوريا تبدو امام الشرط الخارجي الضاغط كأنه الجهة الوحيدة المطالبة باحداث تغيير على مستوى سياستها الداخلية والخارجية واذا كان الاوربيون غير معنيين(حتى الان ) بقضايا الاصلاح السياسي الداخلي وتنصب مطالبهم على تحرير الاقتصاد مع بنود غائمة وغير اساسية عن حقوق الانسان في اتفاقية الشراكة السورية - الاوربية، وإذا كانت المطالب الفرنسية من سوريا لا تمضي ابعد من تنفيذ القرار 1559. فأنه لم يعد هناك ضاغط اساسي اتجاه التغيير سوى أمريكا وهي في هذا الضغط تشمل سوريا مع المنطقة ككل الا انها تحظى بأولوية، و توفرت لها الذرائع في تسريع هذا الضغط وتكثيفه بعد اغتيال الحريري. واذا كان الوطن هو الهدف كما هو الخطاب المعلن والمكرور عبر عقود طويلة للسلطة، واذا كان خطاب الاصلاح قد اصبح مملاً لغالبية الناس فأننا نرى انه يمكن للرئيس الاسد ان يتخذ خطوات جريئة ودفعة واحدة تجنب بلادنا مرحلة تبدو قادمة كما رآها هو في حديثة للصحيفة الايطالية ويكون بهذا قد استبق كل ما يمكن ان يحدث، ويعري هذه الضغوط الدولية ويبادر الى:

اعلان الأستجابة لمطالب الشعب اللبناني وكذلك بيانات وخطابات المثقفين السوريين والاستعداد ليس لانسحاب الجيش السوري وفقا للطائف بل الانسحاب من لبنان دفعة واحدة وترك اللبنانيين يقيمون دولتهم وحكمهم وحكوماتهم وانتخاباتهم كما يحلو لهم وأن هذا لا يشكل بأي حال تراجع عن علاقات الاخوة والجوار بين الشعبين والدولتين.

إلغاء قانون الطوارئ والاحكام العرفية، إذ كما تبين في لبنان ان الناس تظهر وعيا عاليا لممارسة مسؤولياتها الوطنية دون وصاية
الإفراج عن جميع معتقلي الرأي وتعويضهم لهم، وعودة المنفيين واحداث مصالحة حقيقية واغلاق هذا الملف بشكل كامل ونهائي
اقرار قانون احزاب حقيقي وانهاء احتكار الحزب الواحد وسيطرته الشاملة وانهاء تجربة الجبهة الوطنية التقدمية التي تتشكل من احزاب ورقية تعتاش على ما تقدمه لها الدولة دون ان يكون لها أي وجود على الارض بل انها عبء على البعث ذاته، وبناء دولة المؤسسات والقانون والاعتراف بالتعددية الفكرية والسياسية والاجتماعية في المجتمع
الاحتذاء بالخطوة المصرية وجعل انتخاب الرئيس يجري مباشرة من الشعب عبر صناديق الاقتراع واتاحة المنافسة للمرشحين وفق اليات يتم تحديدها
تحديد زمني للانتهاء من كل هذا على ان تكون نهاية الولاية الدستورية للرئيس في عام 2007 افتتاحا لعهد وعصر جديد تعيشه سوريا
أن هذه المبادرة ستكون الحل الامثل لما هو قادم وستضع سوريا على عتبة الخطوة الاولى في ان تكون دولة لمواطنيها وتجنب البلاد والعباد ما يمكن ان تجلبه الايام القادمة، وليس هناك في كل هذا ما يمكن تأويله على انه رضوخ للضغوط الخارجية بل انها مطالب شعبية طال انتظار الشعب السوري الصامت لها، وهو ينظر الى الانتخابات التي تجري من موريتانيا الى عُمان، بحيث تحولت سوريا الى دولة خارج الزمان والمكان ولا يمكن الاحتجاج (المزمِن ) بالصراع مع العدو لان العدو ايضا لديه صراع معنا ولديه عمليات انتحارية داخل حدوده الا انه لم يفرض قوانين طوارئ ولم يؤجل كل شيء الى حسم مسألة الصراع مع دول عديدة، ويمكن للرئيس الاسد ان يكون حينها( كأمر واقع اولا واستنادا الى تحقيق هذا ) ابرزالمرشحين للرئاسة لكنه سيكون حينها مفوضا من صناديق الاقتراع (الشعب ) وليس من التركيبة المعروفة للنظام، ويستطيع حينها أن يمضي بمشروعه الاصلاحي المتعثر منذ سنين مدعوما من الناس الذين انتخبوه ومتحللا من وصاية كل الاجهزة و (مراكز القوى ) دفعة واحدة

وإذا كان الشارع السوري ومثقفيه واحزابه... لا يستطيعون ان يشكلوا حركة من اجل التغيير على غرار مصر او لبنان فأن هذا لا يمنع ان صوت الناس صار مسموعا: كفاية.