ليس هناك شعب مولع بنظرية المؤامرة كالشعوب العربية، حتى أصبحت عندهم أشبه بالمعتقد الديني. فمن فرط هوسهم بهذه النظرية، صرت أعتقد أن لها علاقة بالجينات الوراثية. ولِمَ لا وهناك كتاب معروف بعنوان: الجين الأناني Selfish gene للعالم ريجارد دوكنس، وكتاب آخر ظهر حديثاً باسم جين الإيمان Faith gene يعتقد مؤلفه أن الإيمان بالمعتقدات الدينية له جين وراثي خاص به. لذلك فلا غروَّ أن يكون هناك عامل وراثي عند العرب متخصص بنظرية المؤامرة ينتقل عندهم من جيل إلى جيل يثير عندهم الهوس بتآمر العالم عليهم!!

وقد ظهرت نظرية المؤامرة، ربما لأول مرة، في التاريخ العربي-الإسلامي بعد مقتل الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان، فتفتقت العبقرية العربية آنذاك واخترعت شخصية غامضة لا أثر لوجودها المادي تتمتع بقدرات خارقة، أطلقوا عليها (عبدالله بن سبأ) ووصفوه بأنه يهودي من اليمن دخل الإسلام للتآمر عليه وأنه وراء الفتنة الكبرى ومقتل عثمان وكل ما حصل بعد ذلك.
ففي عصرنا الحالي، ظهر بن سبأ على شكل إسرائيل والصهيونية والموساد والإمبريالية الأمريكية التي تحيك المؤامرات لتدمير العرب وهي السبب لتخلفهم والكوارث التي لحقت بهم، حتى صارت هذه النظرية غذاءهم اليومي والويل لمن يعترض عليهم، إذ سرعان ما يقذفوه بشتى تهم العمالة للاستعمار والصهيونية والشعوبية وغيرها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: إلى متى يعلق العرب غسيلهم القذر على المؤامرات الخارجية؟ و متى يتحرر العقل العربي من وباء نظرية المؤامرة ويلجأ إلى التحليل العلمي العقلاني لمعرفة سبب تخلفنا وهزائمنا وكوارثنا التي جعلتنا أمة تضحك من جهلها الأمم؟

والآن، ونحن في القرن الحادي والعشرين والشعب العراقي يواجه أشرس هجمة إرهابية من فلول البعث الساقط وحلفائهم السلفيين العرب الذين تم غسل أدمغتهم من قبل فقهاء الموت، حيث يعملون على قتل العراقيين وإغراق وطنهم في فوضى عارمة بعد أن تحرر من أعتى نظام ديكتاتوري همجي دموي متخلف عرفه التاريخ. وهذا يؤكد مدى تعلق العرب وهيامهم بالاستبداد وتعلقهم بشخصية الدكتاتور وتأليههم للمستبد وعدائهم للحرية والديمقراطية.
وإذا ما انفجر الشعب العراقي في مظاهرات غاضبة ضد عمليات الإرهاب كما حصل بعد مجزرة الحلة التي ارتكبها إرهابي أردني راح ضحيتها ما لا يقل عن 300 عراقي بين قتيل وجريح، قالوا لنا أن الذي أثار العراقيين ضد الأردن هو الإستخبارات الإيرانية وأحمد الجلبي، وكأن الشعب العراقي لا رأي ولا شعوره ولا إرادة له وإنما هو عبارة عن دمية تحركها المخابرات الإيرانية!!
وليت الأمر توقف عند هذا الحد، فقبل أيام قام الإرهابيون البعثيون ومعهم حلفاؤهم السلفيون الزرقاويون باختطاف 150 عراقياً من سكان بلدة المدائن والتهديد بقتلهم ما لم يرحل جميع سكانها من الشيعة، كمحاولة منهم لإشعال حرب أهلية. فقالوا لنا إن هذه مؤامرة وراءها الإستخبارات الإيرانية وعناصر شعوبية حاقدة، بمعنى أن يكون وراءها عبدالله بن سبأ ولكنه إيراني في هذه المرة. وصدقهم البعض مع الأسف الشديد وتمنينا من كل قلوبنا أن تكون رواية الاختطاف "مفبركة" فعلاً كما ادعت "هيئة علماء المسلمين في العراق" ورددها من يتعاطف معهم من الإعلاميين العرب.
فقد أصدرت "هيئة علماء المسلمين في العراق" بياناً جاء فيه (فقد راقبنا الأزمة المفتعلة والمكشوفة الأهداف حول ما يسمى بأزمة الرهائن في قضاء المدائن التي أريد منها مع ما أريد إثارة الرأي العام وتأليبه على أهالي هذه المدينة الكريمة، تمهيداً لاستهدافها عسكرياً بالطريقة نفسها التي طالت مدناً عراقية أخر والتي وقفت وراءها فئات معروفة بافتعال الفتن والأزمات والتمهيد لها ببعض أعمال الإثارة والتحريض واستغلال العامل الطائفي المقيت لتحقيق بعض مصالحها الرخيصة وتغطية أعمالها الإجرامية المكشوفة ضد مخالفيها من السُنة وغيرهم. (إيلاف19/4/2005). كما نفى عضو المكتب السياسي للحزب الاسلامي العراقي وجود صراع طائفي في منطقة المدائن قائلا إنه لا توجد أي مشكلة ذات طابع طائفي في المدينة والشيعة والسنة يتعايشون بسلام من مئات السنين في تلك المنطقة. (نفس المصدر).

ولكن الحقيقة ليست كذلك، إذ تبين اليوم (20/4/2005) وفق ما أذاعته وكالات الأنباء وكما أعلنه الرئيس جلال الطالباني: "تم انتشال سبع وخمسين جثة لرجال ونساء وأطفال من نهر دجلة جنوبي بغداد يعتقد انها تعود لرهائن كان مسلحون قد احتجزوهم في بلدة المدائن في وقت سابق من الاسبوع." (bbcarabic.com 20/4/2005). كما علقت مراسلة القناة الرابعة البريطانية قائلة:(هذا أول دليل على اختطاف الرهائن في المدائن). كذلك تم العثور على عشرين قتيلاً في ملعب مدينة الحديثة، كلهم من الشرطة العراقية. إذنْ، فهل ما زالت أزمة المدائن "رواية مفبركة" وراءها الإستخبارات الإيرانية وأحمد الجلبي؟
الحقيقة المرة هي أن هناك خراب بشري شامل في العراق كنتيجة حتمية لحكم البعث الفاشي لأربعة عقود، ولكن لم نكن نتصور يوماً أن هذا الخراب قد بلغ حداً فاق كل التصورات وأنه يمكن تحويل هذا العدد من البشر إلى وحوش كاسرة يذبحون أبناء جلدتهم ومن نفس عنصرهم العربي لا لشيء إلا لأنهم يختلفون عنهم في المذهب. وهذا يؤكد أن البعث حزب عنصري وطائفي وإرهابي معادي للبشرية وجميع القيم الإنسانية، لن يتورع عن استخدام أسوأ وأخس الوسائل الإجرامية الدنيئة لتحقيق أغراضه القذرة وهو يحاول إشعال حرب طائفية.
لا أريد هنا أن أبرئ الإيرانيين في محاولاتهم لإفشال العملية الديمقراطية في العراق. ولكن أن نوعز كل ما يجري في العراق، وحتى لو انفجر هذا الشعب في مظاهرات ضد من يدعم الإرهاب من العرب أو إطلاق صرخة عما يجري في بلدة المدائن من جرائم الإبادة والتطهير العرقي وفضح الإرهابيين فيها واعتبار ذلك فبركة وراءها المخابرات الإيرانية "الشعوبية" أمر مخالف للواقع وإهانة لذكاء شعبنا ومحاولة لذر الرماد في العيون والدفاع عن الإرهابيين القتلة وإضاعة لحقوق الضحايا. أيها العراقيون اتحدوا ضد الإرهاب فلا خلاص لكم إلا بسحق الإرهابيين وفضح من يدعمهم.