إنّ ما حصل للمفكّر العفيف الأخضر في هذه الأيّام حدث يستحقّ أن نقف عنده وأن نستخلص الدّروس المستفادة منه، فهي تبيّن بجلاء صورة من صور انحطاط فقهاء الإرهاب الأخلاقي، فقد أضحوا معاملاً لفبركة الموت، عن طريق الفتوى التي تغرّر جمهور الشّباب المؤمن، أو عن طريق اختلاق الأراجيف التي تهيّج هؤلاء الشباب وترمي بهم في براثن الجريمة السياسيّة.
إنّ ما حصل للأستاذ العفيف الأخضر كنا نرصده منذ فترة ليست بالقصيرة، من خلال ذلك النّسيج الدّقيق للعنكبوت الأصوليّ الذي يشتغل بأناة ودقّة متناهية عبر أجهزة الإعلام الجماهيريّة واسعة الانتشار.
ففي الأسابيع المنصرمة، بينما كنت أشاهد برنامجًا عن اللّيبراليّين العرب في حصّة الاتّجاه المعاكس الذّائعة الصّيت، سمعت مداخلة بصوت أعرفه تمام المعرفة لأنّه صوت تعودّنا على سماعه مرارًا، ولكن الاسم الذي أعلن المتكلّم أنّه اسمه لم نسمع به من قبل، وباعتبار أنّ المداخلات في هذه الحصص تكون معدّة سلفًا، وأنّ أكثر المتدخلين معروفون لدى مقدّم البرنامج، استغربنا تواطؤ معد البرنامج مع الشيخ الغنّوشي في شنّه هجوما بذيئا على الأستاذ العفيف الأخضر باسم مستعار.
ولم يكن العفيف متداخلاً في هذه الحلقة ولم يكن حاضرًا في هذا النّقاش.
ثمّ توالت مشاهد هذه الحملة وترادفت أكاذيبها حتّى وصلت إلى التحريض على تصفية العفيف الأخضر من خلال اتّهامه بتأليف كتاب عن النبيّ محمد يجرح مشاعر المسلمين ويحرّك فيهم الكراهية لكاتبه.
وهذه قصّة معروفة النّهاية، حيث يقوم أحد بتكفير شخص ما من خلال تفسير ما يكتب باعتباره ضدّ الدين ويقوم شخص آخر يبتغي الأجر والثّواب بتصفية المتّهم جسديًّا.
غير أنّ الجديد في حملة زعيم "النّهضة" ضدّ العفيف أنّ الجرم الذي يريدونه سببًا في قتله قائم على أكذوبة رخيصة، وهي نسبة كتاب لكاتب لم يكتبه، والذي يعرف العفيف الأخضر يعلم أنّه رجل لم يتبرّأ من أيّ حرف كتبه في حياته الفكريّة المديدة، بعكس فقهاء الإرهاب الذين يفتون حسب المنفعة الشخصيّة وهم دومًا على استعداد للتملّص من فتاواهم إذا شعروا بأنّ غرمها بات أكبر من غنمها.
كلّ ما نريد قوله هو أنّنا لا نستطيع أن نوقف بالقلم فحسب جرم هؤلاء المستشيخين الذين يزرعون الموت والدّمار في بلدان فشلوا في الوصول إلى حكمها، فما كان منهم إلاّ أن تركوا حلبة الصّراع السّياسي السلمي المشروع إلى محاولة تدمير هذه المجتمعات بشتّى أنواع الفتاوى اللاّأخلاقيّة، واستعملوا كافة الأسلحة بما في ذلك الأكاذيب والدّسائس من أجل الانتقام من النّخب التي فضحت زبفهم وخطورتهم.
إنّ جريمة شيخ حركة النّهضة في تونس لا تقلّ خطورة عن جرائم إرهابيي الجزائر الذين قتلوا عشرات الآلاف من القرويين لا لشيء إلاّ لأنّهم ذهبوا إلى صناديق الاقتراع وانتخبوا برلمانًا ضدّ إرادة الإرهابيين القتلة.
هذه محنة حركة النّهضة في تونس قبل أن تكون محنة العفيف الأخضر وإنّ هذه الحركة ما لم تبادر بأخذ مسافة براء من شيخها فإنّها ستكون حركة كبوة حقيقيّة، وسوف يعتبر الكثير من العرب أن هذه الحركة ما عادت حركة سياسيّة وإنّما هي حركة دسائس ومؤامرات رخيصة.
إنّ العفيف الأخضر استطاع أن يجاهر ببلواه ووجد من آلاف الكتاب والمفكّرين والقرّاء التّأييد والمناصرة.
ولكن هناك جرائم أخرى أكثر خسّة وأشدّ لؤمًا من هذه. هناك كاتبة تونسية معروفة كتبت مقالات لم تعجب دكتاتور الحركة، فهل تعلمون ماذا حدث لها؟ شرعوا في تصفيتها معنويًّا وذلك بوضع اسمها وعنوانها الألكترونيّ على بعض مواقع الإنترنيت الجنسيّة للتّشهير بها كعاهرة معروضة في سوق النخاسة الجنسي. ولماذا؟ لأنّها كتبت مقالاً بعنوان "أيّ ديمقراطيّة يريدها لنا الإسلاميّون الدّيمقراطيّون؟" كما كتبت مجموعة من المقالات العلميّة التي تفكّك فيها مؤسّسة الحجاب. وبما أنّهم يعتبرون الحجاب شعار حرائر الأصوليين، فإنّهم يعتبرون من لا تضعه ومن تناهضه من الإماء، وليس للإماء مكان غير المواخير أو مواقع المواخير التي يؤمونها ويكاتبونها تلذذًا وانتقامًا.
من هذا المنبر، نناشد كلّ وسائل الإعلام العربيّة وكلّ القائمين عليها بأن لا يتواطؤا مع هؤلاء الإرهابيين بإخفاء أسمائهم وصفاتهم عندما يحاولون تجريح النّاس أو تكفيرهم أو النّيل من سمعتهم وكرامتهم، ونناشدهم بأن يلتزموا بقواعد وأخلاقيّات المهنة وأن لا يبادروا إلى نشر أو إذاعة خطاباتهم التّحريضيّة ما لم يوقعوها بأسمائهم ويفصحوا عن هوّيتهم، وإلاّ فإنّهم يتحمّلون مسؤوليّة المساهمة في ارتكاب هذه الجرائم.
التعليقات