حوار موسع مع أستاذ الأدب العربي في جامعة حيفا رؤوبين سنير (2/3)
حاورته لإيلاف كاتارينا لاك: رؤوبين سنير، أستاذ الأدب العربي في جامعة حيفا، من أبوين عراقيين، وولد في حيفا عام ١٩٥٣. أصدر عدة كتب في النقد الأدبي منها ركعتان في العشق: دراسة في شعر عبد الوهاب البياتي صدرت عن "دار الساقي" (٢٠٠٢) وله عشرات المقالات النقدية في كبريات المجلات الأدبية العالمية. التقيناه في مدينة برلين في ألمانيا حيث يقوم بمشروع بحث عن أدب اليهود العرب تلبيةً لدعوة من معهد العلوم المتقدمة ببرلين، وهنا الحلقة الثانية من حوارنا معه:
* هناك ظاهرة مشوِّقة جدا: نعرف أن بعض الكتّاب الذين تبنَّوا واقتبسوا في أعمالهم عناصر صوفية كانوا شيوعيين. كيف تشرح هذا الفعل المُثير للاهتمام؟ وهل تعتقد أن استخدام المواضيع الصوفية مكّن هؤلاء الكتّاب أن يخلقوا صلة إبداعية بين الأدب العربي القديم وأدب الالتزام الحديث الذي صاغه أدباء كـ"سارتر" وغيره؟
- أعتقد أن ما أشرت إليه هي ظاهرة نستطيع شرْحَها بسهولة لأن الحركة الشيوعية كانت منتشرة في الخمسينات. كان معظم الكتاب شيوعيين، مثلا عبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب. ولكن في منتصف الخمسينات حصلت أزمة بعد ما اكتُشِفَت جرائم الستالينية في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي ...
* ... في عام ٥٦ ...
- ...نعم، عام ٥٦، أحس الشعراء العرب بأن ما اعتبروه شمس الأمم وقبلتهم وكعبتهم فجأة انهار. انهار الاتحاد السوفييتي من ناحية قيم أخلاقية، كما يقول صلاح عبد الصبور في "حياتي في الشعر": "فتشت عن معبود آخر"، أي عرف أن المعبود القديم، الشيوعية، انهار. لم يعد يستطيع أن يعتبره شمساً وفتّش عن معبود آخر ووجد هذا المعبود عنده في الإسلام، وليس الإسلام كديانة، بل الإسلام الصوفي حيث الانسان متحرر من الشكليات الدينية ويطمح إلى حقيقة مطلقة. والآن من المهم أن نعرف أن التصوف في أساسه لا يهتمّ بالشكليات الدينية. التصوف يقول: لا حاجة لك إلى واسطة بينك وبين الله، يجب أن تتصل به مباشرةً. لذلك استخدموا كلمة "وصل"؛ فكما يتصل المحب بالمحبوبة المحب الصوفي أو الانسان يتصل مباشرة بالله دون الحاجة إلى كنيس أو مسجد أو كنيسة. الحسين بن منصور الحلاج على سبيل المثال قال إن كل الديانات هي في أساسها نفس الشيء بحيث أنها مختلفة في الشكليات. ولكن عندما يقترب المؤمن من الحقيقة تتلاشى المسافة بينه وبين المؤمنين من أبناء الديانات الأخرى. هذا يعني أنه عندما يقترب من الحقيقة فإن المؤمن لا يدين بالإسلام أو اليهودية أو المسيحية بل بديانة الحبّ، كما قال المتصوف الأندلسي الكبير محيي الدين بن العربي في "ترجمان الأشواق": "
لقد صار قلبي قابلا كل صورةفمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحبّ أنّى توجّهتركائبه فالحبّ ديني وإيماني
* هل يمكن القول بأن هناك في الصوفية عوامل متحررة؟ وإذا كان صحيحا، كيف تشرح إطاعة الله الموجودة في التصوف والاهتمام الشديد بالتصوف من قبل الكتاب الملتزمين الذين كانوا يرفضون إطاعة أي سلطة فوق الانسان - إلا مصلحة المجتمع؟
- أظن أن الكتّاب العرب لم يعتقدوا – ولا يعتقدون اليوم – أن هناك فارقا بين المجال الاجتماعي وبين الصوفية. حتى هناك من تحدث عن التصوف الاجتماعي أو الصوفية الاجتماعية كما وصفها نجيب محفوظ. ولذلك على سبيل المثال عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور اللذان كانا شيوعيين وأخذا يميلان إلى التصوف – وبالطبع كانا يشعران بأن الاتحاد السوفييتي لا يمثل الشيوعية الخالصة - لم يتركا الشيوعية كطريق يحاول الشاعر من خلاله أن يصلح المجتمع، كما قال لينين إن الشاعر يجب أن يغير المجتمع. وأدمج الطموح إلى الله في هذه المحاولة بحيث الكاتب أصبح ملتزما بحال المجتمع كأمر أخلاقي وكأن الله يريده أن يقوم بإصلاح المجتمع. هذا الدمج بين الطموح إلى الله والطموح إلى إصلاح المجتمع بدأ يشكّل طريقا جديدا لشاعر كعبد الوهاب البياتي. ولجأ الشعراء العرب المعاصرون إلى تفسير النصوص الصوفية بطريقة مخالفة لطريقة التفسير الصوفي المثالي الذي يقول إن الصوفي يجب أن يترك المجتمع بحيث يكون هو مع ألله لوحده. وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور،على سبيل المثال، قالا إن الصوفي إذا ترك المجتمع فهو في عيونهما خائن. يجب أن يدمج محبّة البشر مع محبّة الله. وهنا أخذ كلاهما الحسين بن المنصور الحلاج كقدوة. لماذا؟ لأنا الحلاج نفسه كان يطمح إلى الاتصال المباشر مع الله وقال "أنا الحق". وفي تفس الوقت كان يساعد اليتامى ويحاول أن يقدم مساعدة للناس. والحلاج بدأ يمثل قدوة للشاعر الذي لم يَثْنِه حبُّه لله عن حبّه للمجتمع. وعلى طريق الصوقية الاجتماعية سار شعراء كعبد الوهاب البياتي وحتى أدونيس في قصيدة "مرثية الحلاج" حيث يتقمّص أدونيس شخصية الحلاج.
* قد تكلمنا عن الشاعر العراقي الراحل عبد الوهاب البياتي ونعرف أنك قدمت دراسة معمقة عن شعره تحت عنوان "ركعتان في العشق: دراسة في شعر عبد الوهاب البياتي" (دار الساقي، ٢۰۰٢). هل يمكنك أن تخبرنا: ما هو الدافع الذي جعلك أن تخصص دراسة مطولة وشاملة لشاعر كالبياتي؟
- أعتقد أن البياتي في النصف الثاني من القرن العشرين يمثل في شخصيته قصة الشعر العربي. الشعر العربي الحديث بدأ رومانسيا – مثلا ديوان عبد الوهاب البياتي الأول "ملائكة وشياطين" يمثل الشعر الرومانسي الذي كان يُكتب في الثلاثينات والأربعينات: الميل إلى الطبيعة والحب، أشياء عادة نجدها عند الشعراء الشبان. بعد ذلك قال البياتي لو أتيح له لأحرق هذا الديوان. ولكن بالنسبة إلينا هو ديوان مهم لأن هذا تمثيل للشعر العربي في الثلاثينات والأربعينات. ولكن في الديوان الثاني هناك تحول. في "أباريق مهشَّمة" نجد تحولًا للطريق الثوري الشيوعي – محاولة إصلاح المجتمع. وهذا التحول في رأيي هو مرآة للشعر العربي بسبب تأثير الشعر الأوربي وبسبب الأحداث في فلسطين والانقلابات التي حصلت في العالم العربي: بدأ الشعراء يكتبون شعرا واقعيا واجتماعيا وتركوا من ورائهم شعر القدماء. حتى بدَؤوا يخجلون من أنهم كانوا قد كتبوا شعرا رومانسيا. فالبياتي أخذ يكتب في الخمسينات شعرا ثوريا عن تبديل الحكم ولكن المشكلة أن بعد تبديل الحكم العراق لم يكن كما تمنّاه البياتي. ولذلك خيبة الأمل التي أصيب بها البياتي دفعته إلى التفتيش عن طريق جديد. ووجد الطريق الصوفي المُدْمَج بالطريق الثوري، ويقول في قصيدة "قراءة في كتاب الطواسين للحلاج":
ثورات الفقراء
يسرقها، في كل الأزمان، لصوص الثورات
بدأ يفهم أن كل ثورة تنشئ نظاما جديدا ولكن هذا النظام الجديد يسرق الثورة وتكون هناك حاجة إلى ما يسميه البياتي بـ"ثورة مستمرة"...
* ... ويذكرنا ذلك تجربة المكسيك وشخصية إميليانو زباتا.
- نعم. لذلك على سبيل المثال أعجبه الفيلم "فيفا زباتا" (Viva Zabata) الذي يتحدث عن إميليانو زباتا، زعيم الفلّاحين في المكسيك في بداية القرن العشرين. وما أعجبه في هذه الشخصية أن إميليانو زباتا قام بثورة وحالما وصل إلى سُدة الحكم قال :"أكملت المهمة ولذلك أريد أن أعود إلى القرية لأكون من جديد فلّاحا." والبياتي خرج من ذلك بالنتيجة أن في العالم العربي عندما تنجح الثورة والثوريون يصلون إلى تغيير الحكم يصبحون هم أنفسهم دكتاتوريين كما كان الدكتاتور الذي أبعدوه. ولذلك يقول البياتي: "نحن في حالة يجب أن نقوم بثورة مستمرّة! دائما يكون هناك حاكم مستبدّ يجب أن نطرده ولكن يجب علينا أن نحذر لأن من طرد الحاكم المستبد الثوري يصبح مستبدا بنفسه." البياتي اعتبر نفسه كأحد الثوريين في ما وصفه "معجم القديسين" الذي يشمل عيسى والحلاج – نستطيع أن نقول إن البياتي لم يكن متواضعا. بالفعل، إذا لم يكن الشاعر، أي شاعر، مصابا بجنون العظمة بعض الشيء فمن الصعب أن نجده يقول شعرا يعتقد أن له قيمة بالنسبة لأناس آخرين.
* ما هي انعكاسات هذا التطور الإيديولوجي في حياة عبد الوهاب البياتي على شكل قصائده وأسلوبها؟
- عبد الوهاب البياتي بدأ كتابة الشعر بالأسلوب التقليدي للقصيدة حيث كل بيت فيها يتكون من صدر وعجز مع نفس القافية على طول القصيدة. ثم اكتشف الشعر الحر. عبد الوهاب البياتي لم يخترع الشعر الحر ولكن المسألة التي أشغلت باحثين عديدين من هو أول من اكتشف الشعر الحر هي مسألة سخيفة لأنه إذا كان السياب هو الذي كتب أول قصيدة في الشعر الحر أم نازك الملائكة هذا ليس مهما. فالشعر الحر ليس اكتشافًا بل هو تطور تدريجي. منذ بداية القرن العشرين بدأ الشعراء يحاولون كسر عمود الشعر. ظهر ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وأحمد زكي أبو شادي وكتّاب آخرون حاولوا أن يجدوا قالباً شعرياً يتيح للشاعر حرية أكثر في كتابة الشعر. لذلك إذا كانت نازك الملائكة الأولى أم السياب هو الأول فهذا لا يعنينا. ما يعنينا أن هذا التطور هو تطور بطيء وعندما نصل إلى الخمسينات نرى كثرة من الشعراء يكتبون بالطريقة الجديدة أي باستخدام السطر الشعري وليس البيت، بحيث لم يكن هناك تخلٍ عن التفعيلة في سطور الشعر ولكن لم تعد التفعيلة تُستَخدَم في عدد ثابت كما كانت العادة في الشعر التقليدي. وكذلك الموسيقى الأساسية للشعر العربي بقيت في الشعر الحر. واستخدم عدد من الشعراء الجدد القافية بصورة وظيفية. بالطبع عندما جاءت قصيدة النثر ومن خصائصها التخلي عن الوزن كان هناك من اعتبر هذا التخلي كخيانة: فكتبت نازك الملائكة أن قصيدة النثر هي "خيانة للعروبة والإسلام".
* رأينا أن البياتي مرآة عصره. ما هي الخلاصة التي أردت استنتاجها من دراستك لشعره؟ وأقصد بالخلاصة الفائدة التي يمكن أن يقدمها ناقد إلى شعراء الموجة الجديدة (الثمانيين او التسعينيين) من خلال دراسة شاعر ينتمي إلى جيل الخمسينات؟
- لم أعتبر نفسي أبدا كمن يستطيع أن يقود أو يرشد أي شاعر. أعتقد أن الناقد أو الدارس بالنسبة إلى الشاعر هو طفيلي. الشاعر المبدع ليس بالحاجة إلى الناقد. ولذلك أريد أن أقول إنه ليس صحيحا أن الدراسة التي أكملتُها تستطيع أن تفيد الشعراء. من يحتاج إلى الناقد ليرشده فهو ليس شاعرا حقيقيا. أنا كتبت هذا الكتاب لأني وجدت بعض القصائد للبياتي تعكس همومي واهتماماتي. ولذلك قمت بهذه الدراسة. لا أعتقد أن لهذه الدراسة معنى بالنسبة إلى الشعر العربي وبالنسبة إلى الكُتاب الآخرين. من الممكن أن تجدي في كتابي محاولة لتقديم طريقة قراءة أي كيف يجب أن يُقرأ الشعر. هناك من يعتقد أن قراءة الشعر نشاط بسيط وسهل. فأردت أن أظهِر كيف يجب أن نتوجه إلى الشعر وأردت أن أقول إن الشاعر عندما ينتج قصيدة هو يعير اهتماما لكل كلمة ولكل شيء، ولذلك يجب على قارئ القصيدة ألا يستخفّ ولا يستهين بالجهود التي بذلها الشاعر لكي يتشئ القصيدة. أعرف شخصيا أن هناك قصائد تُكتب على مدى أسابيع بل أشهر طويلة. وعندما نرى قصيدة من عشرة أسطر قد يعتقد القارئ أنها تُكتب خلال خمس دقائق، ولكن يجب أن نعرف أن العمل الفني هو عمل مقصود ومنظم ومقولب وليس فيه الصدفة. يجب على القارئ الحقيقي أن يعير أهمية لكل شيء في القصيدة ويحاول أن يدخل إلى المختبر الداخلي للشاعر. من يكتب قصيدة خلال دقائق محدودة – كما تفاخر به نزار قباني – فلا يمكن أن يتوقع من القارئ أن يقوم بقراءة متأنية ويستمتع بعملية القراءة. كما قال العالم فيكتور شكلوفسكي (Victor Shklovsky): "عملية الإدراك الذهني للعمل الفني هي غاية جمالية في حد ذاتها." أعتقد أن يجب على القصيدة الحقيقية أن يكون فيها دائما بعض الشيء غير واضح، وتكشف كل قراءة شيئا جديدا. هناك قصائد عديدة قرأتها خمسين أو مائة مرة وما زلت أقرأها مرة تلو الأخرى لكي أكتشف أشياء جديدة. وفي بعض القصائد للبياتي – ليس في كلها - وجدت هذه المزايا، مثلا قصيدة "امرأة" من ديوان "بستان عائشة" التي عندما تبدأ بقراءتها تعتقد أنها تصف امرأة زانية ولكن رويدا رويدا تقتنع بأن هذه الزانية ليست إلا قديسة من أكبر من يحتويه معجم القديسين. فلنقدم مثلا سطور هذه القصيدة لتوضيح موقفي من الشعر الحقيقي:
امرأة
تعود كلّ ليلة من قبرها النائي
إلى مدائن الصفيح
تمارس الحبّ مع الشيطان في بيوتها
تصهل مثل فرس في الريح
وكلّما أدركها النعاس في تجوالها
عادت إلى الضريح
* قبل أن نتعمق في الحديث عن القصيدة العربية وعلاقتها مع الشعر العالمي أريد أن أتكلم معك عن حالة اللغة العربية في إسرائيل. من المعلوم أن العربية إحدى اللغات الرسمية في إسرائيل، فما هو دور الدراسات العربية في مجال الأكاديمية الإسرائيلية؟ وهل تساهم الدراسات العربية بطريقة أو أخرى في الخطاب العام عن الهوية الإسرائيلية؟
- اللغة العربية هي لغة رسمية حسب القانون ولكن فعلا إذا فحصت عمن يجيد العربية في إسرائيل فوجدت أن من يعرف العربية كتابةً وقراءةً هو إما مولود في دولة عربية وينتمي إلى الموجة الأولى من المهاجرين اليهود العرب أي عندما وصل إلى إسرائيل كان عمره خمسة عشر عاما على الأقل أو من تعلم العربية في إسرائيل ويعمل في الأجهزة الحكومية والعسكرية حيث معرفة العربية ضرورية. لن تجدي في إسرائيل أشخاصا عديدين تعلموا العربية لأنهم يعتقدون أنها لغة مهمة من حيث الثقافة. قد يدرس المرء في إسرائيل مثلا اليابانية أم الفرنسية لأنه يتوقع منها فائدة ثقافية و لكن العربية لا تُعتبَر لغة مهمة بالنسبة إلى المثقف الإسرائيلي. هناك شيء مذهل: في أقسام الأدب المقارن في الجامعات الإسرائيلية كلها ليس هناك باحثون يدرسون مثلا الأدب المقارن العربي-العبري. يستطيع المرء أن يؤلف دراسة مقارنة بين الأدب العبري والأدب الروسي أو البولوني وبالطبع الإيطالي والاسباني ولكن ليس العربي. الأدب العربي هو ليس ميدانا يعتبر المثقف الإسرائيلي أن عليه أن يتعمق فيه. هناك أقسام لغة عربية تنحصر الدراسات الأدبية العربية وليس بوجهٍ مقارنٍ أي كشيء يجب أن يكون مقبولا في دولة تعيش في الشرق الأوسط.
* في ألمانيا الوضع متشابه إلى حد ما لأن دراسة اللغة العربية وآدابها كانت تنتمي إلى البحوث الاستشراقية عامةً وإدماج دراسة الأدب العربي في دراسات مقارنة الآداب أو دراسات الأدب الحديث ليس إلا تطورا جديدا. هل يوجد في إسرائيل تطور كذلك؟
- لا! في إسرائيل دراسات الأدب العربي واللغة العربية موجودة فقط في إطار أقسام اللغة العربية وآدابها في الجامعات الإسرائيلية. هناك ظاهرة أخرى وهي أن الطلاب اليهود لا يريدون دراسة اللغة العربية والأدب العربي. هناك تدهور مستمر في عدد الطلاب الإسرائيليين اليهود في هذه الأقسام. ومثلا في قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة حيفا حوالي ٩٠٪ من الطلاب هم من العرب الفلسطينيين. هناك قلة من اليهود. مثلا من ٦٠ أو ٧٠ أو ٨٠ طالبا يكملون السنة الأولى فقط خمسة أو ستة يهود لأنهم يعرفون أن هذا شيء "غير مطلوب" في الثقافة الإسرائيلية. ومن يأتي ليدرس فهو يريد أن يندمج في إطار الجيش الإسرائيلي أو المخابرات. اللغة العربية لا تعتبر كلغة ثقافة يجب على المثقف الإسرائيلي أن يعرفها. وهناك ظاهرة غريبة أخرى وهي أن هناك بحث الأدب العربي من خلال الترجمات! بمعنى أن الباحث يدرس الأدب العربي بواسطة الترجمات للعبرية دون أن يحتاج إلى دراسة اللغة! أعتقد أنه إذا تم ذلك في الأدب الروسي أو الأدب الألماني كان غير مقبول تماما ومثير للسخرية. كيف تدرس أدبا دون أن تعرف اللغة ودون أن تستطيع أن تقوم باتصال مباشر مع ما كتبه الأديب؟
* هل تستطيع أن تعطينا مثالا لتلك الظاهرة؟
- هناك مثلا دراسات عن إميل حبيبي من خلال ترجمات أعمال إميل حبيبي للعبرية فقط. وترجمات إميل حبيبي – مثلا "المتشائل" - ليست أمينة. أنطون شمّاس لم يترجم إميل حبيبي بل كتبه من جديد وقدّمه للقارئ الإسرائيلي كأنه إميل حبيبي. قمتُ بفحص دقيق لترجمة رواية "اخطية" للعبري وتبين لي أن ١٠٪ من الرواية حُذِفَت من الترجمة لأسباب عديدة. مثلا أبيات شعرية من الصعب ترجمتها أو أشياء حذفت لأن أنطون شمّاس ظن أنها لا تفيد الرواية. ولذلك من يقرأ ترجمة هذه الرواية لا يقرأ رواية إميل حبيبي الأصلية، بل رواية جديدة كتبها أنطون شمّاس مستندا إلى رواية إميل حبيبي. والمذهل أنه ليس هناك في الترجمة العبرية أي إشارة إلى حذف هذه الفقرات. وحتى بعد أن أثبتُّ ذلك لا أحد يعير أهمية لما قلتُه؛ والعادة هي أن الباحثين يستمرون في بحث إميل حبيبي وكأن هذه الترجمات أمينة. أعتقد أن الأساس هو أن المثقفين الإسرائيليين لا يعتبرون الأدب العربي كأدب له منزلة؛ يعتبرونه كفولكلور وكشيء تافه. أنا دائما أتحدث عن "التنافر المعرفي" بمعنى "cognitive dissonance". وما معنى ذلك في السياق الإسرائيلي؟ أغلبية المثقفين الإسرائيليين لا يعتبرون أن هناك أي قيمة للأدب العربي. ولكن المشكلة أنهم يعتبرون أنفسهم متحررين ومنفتحين. لا يمكن أن يقولوا عن "الآخر" العربي أنه ليس له ولآدابه ولثقافته أي قيمة؛ ولكي يخرجوا من هذا المأزق ومن هذا التنافر المعرفي اخترعوا طريقة التمثيل. دائما هناك أديب عربي هدفه الوحيد أن يمثل الأقلية العربية. هذا الممثل هو شخص يتكلم العبرية وينشر فيها ومن السهل الاتصال معه. مثلا أنطون شمّاس قام بهذا الدور لسنوات عديدة حتى فهم أن يُستخدَم من قبل الأغلبية لإثبات أن إسرائيل مجتمع ديمقراطي ومثقف على مستوى راقٍ. بعد ذلك حل محله إميل حبيبي عندما ترك الحزب الشيوعي واعتبر إميل حبيبي – كما أسميه أنا – كمهرِّج عند الأغلبية لأنه يقوم بدور تهدئة ضمير المثقف الإسرائيلي وإعطائه الانطباع أنه متحرر وأنه يؤدي مهماته كمثقف منور. الآن هناك اتجاه إلى تنصيب سيد قشّوع كالممثل الحاضر، على الرغم من أنه هناك إجماع على أنه ليس كاتبا موهوبا بل صحفيا ناجحا. نشر قشّوع كتابين بالعبرية والنقاد الإسرائيليون يواجهون مشكلة في نقدهما بسبب التنافر المعرفي الآنف الذكر. لذلك معاملة الكُتاب العرب في إسرائيل ليست موضوعية. وإذا سألت المثقفين العرب إذا كان أنطون شمّاس أو سيد قشّوع يمثلانهم فأجابوا لك بالنفي التام. بالفعل سيد قشّوع ليس معروفا تماما بين العرب.
التعليقات