"رحلتي الى بلاد الرافدين وعراق العرب"
بحث في اخلاق وطباع الناس في اواخر العهد العثماني
حاوره موسى الخميسي: صدر للكاتب والصحفي العراقي ثائر صالح ترجمة كتاب "رحلتي الى بلاد الرافدين وعراق العرب" للكاتب اللبناني الهنغاري ميهاي فضل الله الحداد عقيد الجيش الامبراطوري الملكي، آمر مزرعة تربية الخيول. وهو رحلة شيقة في طبيعة المجتمع العراقي القديم، في ضوء الانثروبولوجيا الاجتماعية، يصف الكاتب مشاهداته في بلاد وادي الرافدين، حيث يوصف طباع الناس واحوالهم وعلاقاتهم وعقائدهم وطبيعة حياتهم في عامي 1901 و1902 وصدر الكتاب سنة 1904. يجيء هذا الكتاب المهم ليسد فراغا في مكتبتنا العربية عن اوضاع المجتمع العراقي في اواخر فترة الاحتلال العثماني مع المترجم الصحفي الاستاذ ثائر صالح كان لنا اللقاء التالي:
*هل جاءت ترجمتك لهذا الكتاب على ضوء ندرة البحوث العربية في العلوم الاجتماعية وضآلة عدد المختصين بالدراسات الانثروبولوجية لبعض من مجتمعاتنا العربية؟
- الكتاب، وإن احتوى على الكثير من الملاحظات الأنثروبولوجية، هو كتاب يمكن وصفه بأنه متخصص في شأن بعثات شراء الخيول العربية. وهو نص متنوع وغني يمس الكثير من الأغراض، فيقرأ المرء فيه أدب الرحلات المشوق والدراسة الأنثروبولوجية عن البدو ووصف المدن العربية في مطلع القرن العشرين، علاوة على الغرض الأصلي منه، وهو تقديم الكاتب خبرته في موضوع إعداد وقيادة بعثات شراء الخيول في الشرق الأوسط.
يتابع الكتاب حياة بعثة مجرية ذهبت إلى لبنان وسوريا والعراق لشراء خيول عربية أصيلة في 1901-1902، ويصف البشر الذين التقت بهم والمدن التي مرت بها، ويركز على عملية شراء الخيول من القبائل البدوية، وعلى الخصوص قبائل شمر (شمّر طوقة) وعنزة. ويعطي الكتاب صورة فريدة عن حال المشرق العربي في أواخر أيام الإحتلال العثماني. ومؤلفه ميهاي فضل الله الحداد ولد في بيت شباب (قرب بيروت) سنة 1841، والتحق ببعثة مجرية زارت الشام لشراء الخيل في 1857 وقدم معها إلى المجر، حيث انخرط في صفوف الجيش النمسوي المجري وأصبح ضابطاً وصل رتبة لواء قبل تقاعده في 1913. عمل في مراكز تربية الخيل في المجر، وأصبح آمراً على مزرعة بابولنا وهي أهمها وأكبرها. توفي في 1924 ودفن في بابولنا.
*هل تعتقد بان الكتاب يكرس للقارىء والدارس معرفة تسد فراغا محسوسا حول الاوضاع الاجتماعية للمجتمع العراقي والسوري واللبناني في تلك الفترات التاريخية؟
- بالتأكيد، رغم أن مؤلفه ليس متخصصاً في هذا الحقل من المعرفة، ألا أنه تناول في النص الكثير من الظواهر كما أسلفت، وكل ذلك وضعه في حلة جميلة ومشوقة لا تنقصها الظرافة ولا الصياغة الأدبية المشوقة. يتناول فيه العديد من المظاهر الهامة، مثل الوضع في لبنان فيما يخص العلاقة بين الطوائف والأديان، والعلاقة بين البدو الرحل والبدو الذين استقروا حديثاً والحضر سكان المدن، وعلاقة السكان بالجنود الأتراك ونحو ذلك. ويفرد الكتاب فصولاً لوصف البدو وحياتهم وعاداتهم وعلاقتهم بالخيل. ويتميز الكتاب بخلوه من الروح الطائفية، فمؤلفه اللبناني الأصل المسيحي، يتعجب للإقتتال الذي حدث في 1860 بين الدروز والموارنة، ويكيل المديح للرجال الذين عملوا عنده، وهم موارنة ودروز ومسلمون شيعة، حيث انسجموا مع بعضهم البعض طوال مسير البعثة. كما أشار إلى مدى التسامح الديني في بغداد، حيث ذكر أن بغداد هي المدينة الشرقية الوحيدة التي يسمح فيها للمسيحيين بدق النواقيس في كنائسهم. أعتبر ذكر ذلك ضرورياً عندما يأتي اليوم مجرمون عاديون يفجرون هذه الكنائس بمن فيها لغرض مبيت، وهو تمزيق النسيج الاجتماعي المتنوع للمجتمع العراقي، لكني متأكد أنهم سيفشلون في ذلك.
وآراء فضل الله الحداد بصدد دور الثقافة والتعليم في انتشار الرخاء الإقتصادي وبدرجة أهم التسامح الديني والوئام الإجتماعي في لبنان مثيرة للإنتباه، ويرجع ذلك إلى انتشار التعليم الذي نظمته ومولته فرنسا بعد التدخل الأوروبي عقب أحداث 1860.
*يركز الكتاب بصورة اكبر من تفسيراته وتحليلاته ومقارناته على عملية شراء الخيول العربية الاصيلة، فهل بالامكان اعتباره مصدر انثروبولوجي لمعرفة الحياة الاقتصادية وانظمة القيم والعادات والتقاليد واعراف البيع والشراء في غابر مجتمعاتنا العربية؟
- يعطي الكتاب الكثير من المعلومات المفيدة في هذا الشأن. ويركز على المساومة عند البدو ومشاكل الدفع ويصف عملية الشراء بشيء من التفصيل. مثلاً يوضح الخطأ الذي وقع فيه الرحالة الأوروبيون بصدد عدم معرفة سكان مناطق الفرات (عانه وهيت) للنقد التركي وقيمته، فيذكر أنه يعرفون قيمته جيداً ولا يستطيع أحد أن يخدعهم، كل ما في الأمر أنهم كانوا يتحاشون التعامل مع الجنود الأتراك (وهم كانوا يرافقون الأجانب والقوافل لتوفير الحماية)، فهؤلاء ما اعتادوا دفع شيء للقرويين المساكين لقاء ما يأخذونه منهم. كما يتطرق إلى موضوع الرشوة التي انتشرت بسبب فساد الإدارة العثمانية، والحيل التي كان البعض يعمد إليها للحصول على مكافآت وعطايا. وهو يشير بشكل مقتضب إلى التجارة في ذلك الوقت، وحال الصناعات اليدوية والسلع التي تشتهر بها المدن التي مر بها.
*هل يمكن اعتباره مصدراً لبعض الباحثين؟
- فيما يتعلق بتخصصه فالجواب بالتأكيد. فهو يقدم معلومات دقيقة عن عادات البدو وأحوالهم، وأحوال المدن العربية كما أسلفت. كذلك تتحدث مقدمته عن تأريخ تربية الخيول في المجر وقد ضمنها استعراضاً تفصيلياً لـاريخ البعثات المجرية والنمساوية التي ذهبت إلى الشرق لإقتناء الخيول لحساب الجيش. لكنه ليس كتاباً علمياً، بمعنى أنه لم يوضع إلا لغرض واحد هو حفظ ونقل خبرة فضل الله الحداد في مجال تنظيم بعثات شراء الخيل، لكنه أصبح بفعل خيال مؤلفه وسعة اطلاعه أكثر من مجرد كتاب يصف بعثات شراء الخيل، غدا كتاباً مشوقاً وممتعاً ومفيداً، وفوق كل ذلك نتلمس فيه الحب والتفهم الذي يشعر به المؤلف تجاه سكان هذه الأصقاع. وهو كتاب متزن وموضوعي ليس فيه مغالاة ولا تزويق أو تجني. فقد وصف فضل الله الحداد جمال جبال لبنان وريف الفرات الأوسط، في نفس الوقت تحدث عن التفاصيل الوسخة للمدن العربية الكبيرة مثل دمشق وبغداد. يتحدث مثلاً عن بغداد فيقول ”أكثر الأبواب آيلة للسقوط وبقربها تنتشر الخرائب وتكثر المستنقعات والقنوات الآسنة تتجول عندها الكلاب السائبة التي أفزعتها القوافل“ وهذا المنظر المخيف في الحقيقة هو من نتائج أعمال الوالي المصلح مدحت باشا [1822-1883] الذي أمر بتهديم أجزاء كبيرة من سور بغداد بهدف إعادة بناء المدينة (وهو الذي أمر بهد جزء من طاق كسرى كذلك) ، لكن الهدم لم يتبعه بناء فبقيت الخرائب على حالها. ولا ننسى كذلك فساد الإدارة التركية طوال أربعة قرون. لكن آراء الحداد لم تكن دقيقة في بعض الأمور الأخرى، خاصة فيما يتعلق بمذاهب وأديان المنطقة، لذا لا يمكن الإعتماد عليه في هذا الجانب. مثلاً ينطبق وصفه للطائفة الدرزية على الإسماعيليين بالدرجة الأولى، وكلامه عن الشيعة لم يكن صحيحاً، واضطررت إلى التعليق على بعض ملاحظاته. لكن المهم في الأمر هو الألفة والحب الذان يفيض بهما الكتاب تجاه المشرق العربي وسكانه.
*كيف أنجزت الترجمة من اللغة المجرية الصعبة؟
- كانت لغة الكتاب سهلة وممتعة للغاية. ويذكر المتخصصون أن لغة الكتاب سليمة ولا يشير إلى أن مؤلفه تعلم اللغة المجرية في صباه شيء، سوى بعض الضعف في ترتيب الكلمات في القليل من المواقع. لكني من جانب آخر عانيت كثيراً في تشخيص اسماء بعض المواقع العربية، فقد كتبها بالحرف اللاتيني حسبما سمعها، وزيادة على ذلك وفقاً للتلفظ باللهجة اللبنانية. على سبيل المثال كتب اسم تجمع سكاني يقع عند نهر دجلة بصيغة ”Breili“، ولكنه ورد على الخارطة المرفقة بالكتاب على شكل ”Ghreli“. وتبين بعد البحث المضني أنها ناحية بغيلة، التي جرى تغيير اسمها لاحقاً في سنة 1930 لتصبح النعمانية التي تقع شمال مدينة الكوت بـ 48 كم.
*ما هو موقع ميهاي فضل الله الحداد في تأريخ تربية الخيول في أوروبا؟
- الحداد شخصية معروفة على صعيد عالمي بين مربي ومحبي الخيول. فقد استورد في سنة 1885 حصاناً من تل الكلخ بسوريا من رسن عبيان، أصبح مؤسساً لسلالة هامة جرت تربيتها في بابولنا لحد هذا اليوم. كما جلب معه من العراق عدداً من الخيول التي اشتهرت لاحقاً، وبينها الحصان صقلاوي بغدادي الذي اقتناه من كاظم باشا صهر السلطان عبد الحميد الثاني، الذي كان آمراً لقوة الخيالة العثمانية في ولاية بغداد. وقد حصل كاظم باشا على هذا الحصان من قبيلة رولة عنزة البدوية. وقصة هذا الحصان مؤلمة، فقد أخذه الجيش الروماني الذي شارك في القضاء على ثورة 1919 الإشتراكية المجرية كغنيمة حرب. وأسهم الحداد في تنظيم وتحسين محطات تربية الخيول في الإمبراطورية النمساوية المجرية، وحصل على سمعة كبيرة في هذا المضمار.
التعليقات