المثقفون السوريون تضامنوا مع زملائهم اللبنانيين ومع الشعب اللبناني في محنته. وهم طالبوا بما تطالب به أكثرية اللبنانيين من انسحاب للقوات السورية ومن عودة الاستقلال والسيادة الى لبنان. تضامنهم، للمرة الأولى، لم تحف به الرطانة المعهودة عن المعركة القومية والتصدي للعدو. كان تضامناً صافياً يبديه مثقفو شعب حيال شعب آخر ومثقفيه. هؤلاء المتضامنون بعضهم قضى سنوات طويلة في سجون بلادهم، وبعضهم شارك في «ربيع دمشق» الذي تلا رحيل حافظ الأسد وشكّل الزلزلة الأولى تضرب أركان النظام البعثي. وهم يعرفون أكثر من اللبنانيين ما معنى مطالبة نظام ديكتلاتوري بـ«الانسحاب»: فهم يريدون انسحابه من أجسامهم ومن بيوتهم ومن حيّزاتهم الخاصة والحميمة قبل أن ينسحب من الأرض.
وبهذه المعاني جميعاً، هم شركاء اللبنانيين في التعرض للقهر والعدوان. وبصفتهم هذه، كان طبيعياً أن يلتفتوا الى العمال السوريين في لبنان، وأن ينبّهوا شركاءهم اللبنانيين الى عدم تحويل أولئك البائسين مكسراً لعصاهم. صحيح أن كثيرين من العمال المهاجرين عبروا الحدود كما لو لم تكن هناك حدود، وامتنع تدفقهم عن الضبط الذي تمارسه كل دولة سيدة على الهجرة اليها. وهذا كله مما يستدعي التصحيح لاحقاً لأن سيادة الدولة تتطلّب هذا، كما تتطلبه حماية فرص العمل في المستويات الأدنى للعمالة حيث المنافسة اللبنانية-السورية. لكن الصحيح أيضاً أن هؤلاء العمّال هم العدد «الفائض» عن المجتمع البعثي وعن اقتصاده الرثّ، وقد استفرغهم نظام لا يعبأ بهم وإن كان يعبأ كثيراً بتحويلاتهم المالية. وليس عديم الدلالة أن تمتع الضابط السوري في لبنان بالسلطة والسلطان ترافق مع نوم العامل السوري تحت الجسور وفي العراء، فكان هذا الأخير المطرود الأول من فردوس الجاه والنفوذ.
إنهم، بكلمة، شركاء اللبنانيين في تلقي الأذى نفسه، وهو أذى مصدره واحد.
وهم شركاء اللبنانيين لسبب آخر، هو تطلّب الازدهار اللبناني ليدهم العاملة. وهذا ما كانته الحال، ولو بنسب أقل، قبل تمكّن الهيمنة السورية ونظامها. ولما كان اللبنانيون يعتبرون الاقتصاد الحر جزءاً من طريقة الحياة التي اختاروها، غدا من غير الجائز كبح حركة السوق بقوة العصبية الوطنية، أو بنزعة شبه عنصرية كارهة للسوريين. فكيف وأن اللبنان الذي يراد بناؤه منفتح على الخارج، كل الخارج، متنوّع ومتعدد، وكيف وأن اللبنانيين كثيراً ما تباهوا ويتباهون بهجرتهم الى أبعد زوايا الأرض طلباً للعمل والرزق؟ وبعد كل حساب فإن الثروة التي يخلقها عمل العمال السوريين نقيض النهب الذي تمارسه المافيات الصغرى أو يمارسه إغراق السوق اللبنانية بالسلع الزراعية المدعومة، والرخيصة تالياً.
فإذا ما بدا «طبيعياً» أن تعبّر الوطنيات التي مُنعت من التشكّل عن غضب وعن احتقان، إلا أن وطنيات الغضب والاحتقان لم تعد قابلة للحياة اليوم. وليس عديم المعنى أن اليقظة الوطنية التي بدأت مع انهيار الاتحاد السوفياتي قرنت وطنيتها بالتسامح والانفتاح والديموقراطية. وكانت أوكرانيا، التي ينوي بعض اللبنانيين تقليدها، قد قدّمت آخر الأمثلة: فما أن انتصرت على نفوذ النظام الروسي حتى بادرت الى طمأنة الجيران الروس.
وقد يُفهم في حالات التوتر أن ترتفع وتيرة النعرة والعصبية. لكن يبقى مطلوباً من القيادات السياسية (والثقافية) للمعارضة اللبنانية أن تتدخل، وأن تنبّه الجموع الى بديهة الفارق الشاسع بين سورية وشعبها وبين نظامها، بعيداً عن الفولكلوريات السقيمة للقومية والعروبة والأخوة. فالموقف اللبناني من المثقف السوري، ومن العامل السوري خصوصاً، شهادة على الشكل الجديد الذي ستستقر عليه الوطنية اللبنانية. فإما أن تولد وطنية رحبة تكون نموذجاً يستحق الجهد الذي يُبذل الآن، والذي قد يُطلب غداً، في سبيله، وإما أن تأتي وطنية عصبية متعصبة، كارهة للآخر والغريب. وعند ذاك يغدو التساؤل مشروعاً حول الجدوى من وراء بذل الجهود.
التعليقات