يدير "CIA لبنانية" تقبض على أحشاء الأنظمة السياسية (2)
جميل السيد: رجل سورية في لبنان
أبرز رموز خدمة الخطة السورية في لبنان (1) |
بلال خبيز من بيروت: يشغل اللواء جميل السيد منصبًا بالغ الخطورة في لبنان. فالمديرية العامة للأمن العام تتنوع مهامها وتختلط بين التدخل السياسي المباشر والمهمات الأمنية. هذه المديرية شكلت على الدوام حصنًا حصينًا من حصون العهود المتعاقبة في لبنان. لا تقتصر مهام هذه المديرية على المهام الأمنية المتعلقة بأمن الدولة الداخلي والخارجي بل تتعداها إلى مهام استباقية ووقائية، من قبيل منع الصحف الأجنبية أو الرقابة المسبقة على الصحف المحلية واتخاذ صفة الادعاء على الصحف والصحافيين. كما لا تخلو هذه المهمات من إجازة التنصت على المخابرات الهاتفية وهو موضوع علا غباره في السنوات القليلة الماضية وشارك في الاعتراض عليه رئيسي المجلس النيابي ومجلس الوزراء السيدين نبيه بري والمغفور له رفيق الحريري. فضلًا عن هذا كله، في وسع الأمن العام تنفيذ مهام أمنية داخل الحدود بوصفه قوة عسكرية – أمنية تابعة لوزارة الداخلية.
والحال فإن هذه المديرية تقبض على أحشاء النظام السياسي في لبنان ويصعب مواجهتها إذا ما تجاوزت حدودها. لذا أولت العهود المتعاقبة عنايتها الشديدة في اختيار المدير العام للأمن العام، ذلك أن الموظف الرفيع في موقع حساس كهذا قد يشكل خطرًا داهمًا على العهد نفسه إذا كانت طموحاته السياسية عالية وملحوظة. والحق أن مدراء الأمن العام الذين تعاقبوا على هذه المديرية قبل تعيين اللواء جميل السيد كانوا على الدوام من أصحاب الطموحات المتواضعة، وقليلًا ما يستعاد ذكرهم بعد انتهاء مدة خدمتهم.
على كل حال ونظرًا لحساسية الموقع فإن المنصب قد يشكل محرقة لصاحبه إذا ما تغيرت الظروف. وفي الوظيفة العامة في لبنان غالبًا ما يكون الموظفون أصحاب المناصب الرفيعة أميل إلى التحول والتبدل والميل مع الرياح الملائمة. وغالبًا ما يمالئون السياسيين النافذين شعبيًا ورسميًا، ليتسنى لهم أن يحفظوا رؤوسهم عند تغير المعادلات.
اللواء جميل السيد المتحدر من عائلة بقاعية متوسطة الحال يكاد يكون الوحيد بين الذين شغلوا هذا المنصب وتحولوا من خلال اشغالهم له ركنًا أساسيًا من أركان السياسة اللبنانية. وطوال زمن إشغاله لهذا المنصب لم يتورع عن مواجهة معظم السياسيين النافذين منهم وغير النافذين وعلى نحو غير مسبوق في التاريخ اللبناني. الأمر الذي كان يثير على الدوام استهجان واستغراب السياسيين. اختلف مع الرئيس بري المعروف بموقعه الوازن في المعادلة الداخلية متحالفًا مع سورية واحد رأسي الطائفة الشيعية الكبيرة العدد في لبنان والتي شكلت على مر العقدين الأخيرين خزان التأييد الشعبي للوصاية السورية على لبنان.
دارت سجالات بين الطرفين انتهت بمصالحة في عين التينة مقر رئيس المجلس النيابي برعاية غازي كنعان وزير الداخلية السوري الذي كان يومذاك رئيسًا لشعبة الأمن والاستقصاء في القوات السورية العاملة في لبنان، وهو المنصب الذي يشغله حاليًا اللواء رستم غزالي.
مدير عام الأمن العام في لبنان جميل السيد |
وكان هذا الشد بين الرجلين علامة على مدى قوة فرنجية وارجحيته لدى الإدارة السورية عمومًا. لكن ذلك لم يمنع الأمن العام الذي يديره اللواء السيد من مهاجمته وتفعيل معركة معه. والحال نفسها أيضًا تنسحب على الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي عانى الأمرين من تدخل الأمن العام في السياسة، وكثيرًا ما اشتكى من تسريبات وأخبار ملفقة تناولته شخصيًا او تناولت سياسته او مساعديه كان الأمن العام مصدرها بحسب ما يشاع.
وثمة حادثة تدل على مدى سطوة المديرية وقوة شكيمة مديرها تتعلق بلجوء ضباط الأمن العام إلى مصادرة جواز سفر الزميل سمير قصير بعيد كتابته مقالة في جريدة "النهار" اللبنانية تناول فيها اللواء السيد شخصيًا.
الرئيس الحريري الذي كان ركنًا أساسيًا يومذاك من أركان السياسة اللبنانية المرعية سوريًا، لم يستطع أن يمنع ضباط الأمن العام من ملاحقة سمير قصير الدؤوبة والتي تذكر إلى حد بعيد بتصرفات مخابرات تشاوشيسكو واريش هونيكر. حيث كان الضباط يلاحقونه أينما ذهب ظاهرين للعيان يتقصدون إعلامه بأنه ملاحق. ورغم ان الرئيس الحريري دعا الزميل قصير إلى طاولة الغداء إلا أن الملاحقين لم يكفوا عن ملاحقة الصحافي الذي عاش أيام حرج لا تنسى.
فضلًا عن هذا كله خاض اللواء السيد معارك طويلة مع وسائل الإعلام المحلية، من تقديم شكوى في حق "تلفزيون الجديد" إلى مساجلة "النهار" الجريدة الأكبر في لبنان على صفحاتها، إلى مصادرة الكتب ومنع الأفلام ومساجلة المثقفين والصحافيين في هذا الموضوع. وكثيرًا ما رد على نواب وهاجم سياسيين.
لا شك أن إدارة اللواء السيد لهذه المديرية جعلته هدفًا لسهام المعارضة، وجعلته من ناحية ثانية اسمًا يتردد على كل لسان، والحق أن اللواء السيد كان يستمد قوة شكيمته من ثلاثة مصادر على الأقل:
أولًا: علاقته الراسخة والحاسمة بالرئيس إميل لحود، منذ أن كان الأخير قائدًا للجيش وكان الأول نائبًا لرئيس "الشعبة الثانية"، وهي جهاز شهير من أجهزة المخابرات اللبنانية حكم البلد في عهد فؤاد شهاب وآلت سيطرته إلى الأفول في عهد الرئيس سليمان فرنجية. واللواء السيد هو أول شيعي يشغل هذا المنصب الحساس الذي كان حكرًا على الموارنة من قبل. ورشح مرات عدة لتسلم حقائب وزارية وتردد اسمه بين المستوزرين الذين تم تداول اسماءهم في التشكيلة التي كان يزمع الرئيس الحريري تأليفها قبل بيان استقالته الشهير بعيد التمديد للرئيس لحود، وكان مقترحًا ان يتسلم حقيبة الداخلية او الخارجية وفي هذا ما يشي بكفاءة الرجل على المستوى الشخصي وشدة سطوته.
ثانيًا: استطاع اللواء السيد أن يجعل من المديرية التي يديرها أكثر الإدارات الرسمية كفاءة. فحسّن سير عملها وازدهرت تحت إدارته، وهو في هذا المجال كان يخوض حربًا ضروسًا ضد السياسيين التقليديين الذين يعمدون في غالب الأحيان إلى تسهيل أمور مناصريهم ومحازبيهم في الدوائر الرسمية لضمان ولائهم. فالإدارة المتخلفة في لبنان كانت على الدوام غابة لا يستطيع المواطن أن يتخطى اسيجتها الشائكة إلا بتوصية من زعيم او متنفذ. لكن السيد قطع الطريق على معظم هؤلاء السياسيين، قاضمًا بذلك من مجالهم الحيوي الذي يغذي زعاماتهم الأهلية. وفي تحقيقات صحافية واستفتاءات عديدة كانت شكاوى المواطنين من سوء الإدراة في هذه المديرية أقل بما لا يقاس من سواها من الإدارات. هذا الإنجاز كان من أسلحة اللواء السيد في مواجهة السياسيين، ويمكن القول إنه لم يكن ممالئًا وكان شجاعًا إلى حد بعيد، وكثيرًا ما أحرج السياسيين وكسب معاركه معهم رأيًا وموقعًا.
ثالثًا: لم يأل اللواء السيد جهدًا في تمتين علاقاته بالمخابرات السورية التي حكمت البلد وقبضت على مفاصله كافة في عهد الرئيس لحود. فكانت علاقته جيدة بمعظم المسؤولين الأمنيين السوريين وفي طليعتهم اللواء غازي كنعان وخلفه في المنصب نفسه اللواء رستم غزالي. وكان يستمد من هذا الدعم غير المشروط قدرته على المواجهة في معارك كثيرة.
قد يفسر الدعم السوري للواء السيد وفق تفسيرات عديدة. لكن المسألة التي تلح على الذهن في هذا المقام تتعلق بطبيعة الخدمات التي قدمها السيد إلى الإدارة السورية. ثمة في لبنان أقاويل كثيرة عن دور اللواء السيد في معظم العمليات الأمنية التي طاولت معارضين فعليين وآخرين محتملين للسياسة السورية في لبنان. ورغم أن هذه الأقاويل لا تستند إلى معلومات دقيقة إلا انها تشيع جوًا سياسيًا حول الرجل تجعله مرهوب الجانب من ناحية ومكروهًا من ناحية أخرى. والحق أن ترداد اسمه ليحل محل الرئيس نبيه بري رئيسًا للمجلس النيابي في الدورات القادمة كان يثير الهلع في نفوس اعتى القوى السياسية وأقواها شكيمة.
لا شك أن اللواء السيد قدم خدمات جلى للإدارة السورية في لبنان، وهو لم يخف ذلك على الإطلاق. فكان تارة فزاعة للسياسيين، وطورًا موظفًا رفيعًا حازمًا وعلى قدر من الكفاءة يمكن الاعتماد عليها. لكن الإدارة السورية على ما هو شائع في لبنان ومعروف كانت تخشى من الأقوياء ودائمًا تحاول كسر شوكتهم ومنعهم من تجاوز حدودهم، بالتهديد والإذلال المباشرين أحيانًا وبتفريخ البدائل في أحيان أخرى.
والمستغرب أن تلجأ الإدارة السورية التي لا تحب الأقوياء في لبنان إلى مساعدة رجل قوي من طراز السيد. والأرجح أن ذلك يعود إلى طبيعة المنصب الذي يشغله الرجل. فالمديرية العامة للأمن العام مثلما سلف هي أكثر الإدارات الرسمية تشعب مهمات وأطولها باعًا. وكانت على ما كان يقول الراحل كمال جنبلاط سي. آي. إيه لبنانية، لا يمكن فك بنيانها ولا تستطيع السياسة ان تضبطها.
هذه الإدارة في العهود السابقة كانت حصنًا حصينًا من حصون المارونية السياسية وكانت على الدوام بمثابة ضابط إيقاع مجمل عمل المؤسسات، والأرجح أن الإدارة السورية التي تعرف حساسية هذه الإدارة وأهميتها لم تكن تستطيع أن تغامر بتولية مهامها إلى رجل عادي، فكان السيد خيارها الأفعل والأدق.
اليوم تطالب المعارضة اللبنانية برأس اللواء جميل السيد بوصفه مسؤولًا معنويًا وأمنيًا عن مقتل الرئيس رفيق الحريري. قد تنجح في ذلك، خصوصًا أن أحدًا لا يريد منافسًا من طرازه. فهل كان الرجل ضحية ذكائه أم ان ذكاءه المشهود له سينجيه من الطوفان فيحسن القفز الرشيق من السفينة الغارقة إلى السفينة الناجية؟
التعليقات