ولد محمد بنيس في مدينة فاس (المغرب) عام 1948. أسس عام 1974 مجلة "الثقافة الجديدة". أصدر العديد من الدواوين الشعرية، جمعت مؤخرا في جزأين "الأعمال الشعرية" ( دار توبقال والمؤسسة العربية للدراسات والنشر 2002)
وله دراسات حول: "ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب" (1979)، "حداثة السؤال" (1985)، "الشعر العربي الحديث" (4 أجزاء) و"كتابة المحو" (1994). ومن بين ترجماته: كتاب عبد الكريم الخطيبي "الاسم العربي الجريح"، و"أعمال شعرية" لبرنار نويل.
نشيد الكتابة
أُسْلِمَ الكتابة جسدي. جسد اللمس والأثر. تلك هي الطريق التي اهتديت إِليها وأنا في الطريق إلى الكتابة. لا قبْلُ ولابعْدُ. في اللذة والعنفوان تبحث اليد عن نفَسٍ به تبدأ القصيدة. كلّما أقبلت من جهة اللمس منصتاً إِلى الأثر، حيث الكلمات تتخلى عن وضعية الكلمات. نفَسٌ في الطريق إلى الطريق. والكتابة شيئاً فشيئاً تعثر على هيئتها. صامتة في هامش، هو مسكن الحادثة.
الاصطدام بالكلمات حادثة. وبدءاً من الحادثة تستيقظ الكتابة. على صفحة. في صوْتٍ. ناسية سواها. ذلك هو نشيد الكتابة. متورطاً في عدم التخلّي عن اللّمْسِ. نفساً أقترب به من مجهول الأشياء. الصخر. الغمام. الرمال. الضوء. النهر. نبيذ. لمس الأشياء في مجهول به أتنعم. وبه يصبح للكتابة معني سابقٌ على المعلوم. المودوع في جسد. في زمن. لاقبْلُ ولابعْدُ.
وأعـزّ مجهُولٍ تتقصّدُهُ الكتابةُ هو الصّمْت. في الدخيلة ينشأ. قلقاً. متعدداً. هناك اليد تعثر على حجة في مصاحبة اللّمْسِ. ضوئياً. مشعاً. بلوريّاً. بعض أضلاع تلمع في الخفاء. المجهول. الذي تحافظ عليه الكتابة، من قصيدة إلى قصيدة. نشيد الكتابة.
من الحادثة، إذن، والاصطدام بالكلمات. تكف اليد عن أن تكون أداة والكتابة عن أن تتجمّد في رسم. يدُ جسد تحركها اللذة والعنفوان. وفيها الكتابة تعثر على بنائها زوغاناً عن المتن والحاشية. عن الموزون وغير الموزون. عن النثر والشعر. لاشيء غير الشعر في القصيدة. نفَسٌ يبدل القواعد مثلما يبدل الاتجاهات المرصودة لبداية القصيدة ونهايتها. وها هي ذي قصيدة موغلة في المجهول الذي هو الأثر ذاته. معرفة المجهول. أقول. والدخيلة في المجهول تنكشف ذاتاً متفردة. لاتشبه ولاتتشبَّهُ. عادةٌ منافيةٌ للعادة. حادثة اصطدام في الطريق إلى نشيد الكتابة.
اللمس حياةُ المحسوس. واليد التي تكتب تفضل السكن في المكان - الأمكنة. كل مكان هو الزمن. مكتوباً بيدِ جسدٍ ليس هو دائماً أنَايَ. المعلومة. المعتقلة بين ماضٍ ومستقبل. إنها أنايَ المخلوقة في الطريق إلى القصيدة وبالقصيدة. حركة حلزونية مفتوحة على اللانهاية. بين حركيتين. لجسَدٍ لا يتكرّرُ فيما هو لا يحنُّ إلى سالفٍ. نموذجاً شعرياً أو صوتاً غيْريّاً. حتى تلتبس طرق القصيدة على الطريق السيارة. و للكتابة أن تقبل بالسديم. وتقبل أيضاً بالمأساوي. ذلك شرطها اليّدُ. وفي كل مرّةٍ أشكر الجسدَ القادم بلا هوادةٍ. مَاحياً كل علامة على المعنى الأولي. المتداول. الذي يمحق الدخيلة وينتصر للمعلوم. إحساسٌ بالهجوم يستولي عليَّ وأنا أكتب النشيد. مكوّناً ذاتاً في صيرورة. وحقيقةً لا نبلغها إِلاّ في المتوالي. الهاجم، مرّةً بعد مرّةٍ. هواءٌ يتحرك بين الكلمات. والحواسُّ وحدها تدرك ما لا يُدركُ.قلقاً يتفحص تفاصيل العلاقات بين كلمات. على صفحة. في صوت. نازلاً إلى المجهول. منطوق الكتابة.
والقصيدة، في هذه الحالة، أفقية. تمتدُّ بأقل الكلمات. صعوداً مع النفَس. مهما استبدّ المعلوم. وحاصر. وزجَّ. وانتصر. طريقها هي الطريق ذاته الذي تسلكها الكتابة نحو الكتابة. نشيد الكتابة. في زمن ينفر من الشعر لأنه زمن يضجر. بالمجهول. ولا خوف. تكابد القصيدة. مدركة أن المعلوم مضاد للكتابة. وهي، بعكس ذلك، تقاوم. محافظة على المعنى. منكشفاً حيث لا ينصت إليه غير المهيئين للنزول مع الكتابة إلى مستحيل ذات ومستحيل نشيد الكتابة.
المحمدية في 02.11.19

إلَيْك
اصْطَدمْنَا في زُقَاقٍٍٍٍٍٍٍٍِِ. لَعَلَّهُ ارْتعَاشَةُ الكَلاَمِ. لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا عِطْرٌ. هَدَّدَني الغِنَاءُ. نَسيجٌ مُبَلَّلٌ بِهُجُومه. غَفْوَةٌ عَلَى كَتِفي تَنْأَى بأَعْضَائي. مَعَابِرُ انْحَفَرَتْ في زُرْقَةٍ وَحيدَةٍ. لَنَا مَعاً. أَوْ لِي وَحْدي. صَبَاحُ الَخْير يَا مَوْجَ السَّكِينَة. هَلْ سَبَقتْ يَدي كَلِمَاتِك. شَفَتِي خَدَّك. هَادِئاً فِي الصَّمْتِ. وَفِيكِ. أَنْتِ. انْحَرَفْتُ نَحْوَ ظلاَلٍ خَارِجَات لتَوِّهَا منَ الأَنْفَاس. ضيعِي. قَليلاً فِي أَبديَّتِك الخَفيفَةِ. قُبَّةٌ خَضْراءُ تَحْرُسُنَا مَعاً. أَوْ تَحْرُسُنِي وَحْدِي. مَسَافةُ البلّوْرِ. تَحْتَدِمُ الشَّسَاعَةُ كُلَّماَ ابْتَدَأَتْ نَواَعيُر الِمَياه بأَحْقَاقِهَا تَدُورُ وتَغْسِلُنَا. شَيْئاً فَشَيْئاً. تَنْحُلُ الكَلِمَاتُ. وَالأَعْضَاءُ تَسْتَلِذُّ مَا يَجْذِبُهَا إلَى أَسْفَلِ الـمَاءِ. مَوْجَةً فَمَوْجَةً. شَفَتاكِ تَقْتَربَان منْ كَفِّي. كَيْفَ انْتَسَبْنَا إلَيْكِ. انْغَرَسْنَا في جَحيمكِ. التَفَفْنَا. انْحَشَرْنَا. مَدًى أَوَّلُ يَنْشَقُّ وَيَتَّسِعُ. اتَّئدي أَيَّتُهَا العَسَاليجُ الوَافِدةُ مِنْ أخَاديدَ مجْهُولَة. وَأَنْت أَيَّتُهَا الدَّرجُ احْملي أَقْدَامَنَا إِلَى حَيْثُ مَتَاهُهَا. انْتَهَى إلَيَّ هَوَاءُ هَذَا الوقْتِ مُجْتَمِعاً بِكُلِّ سُمُومِهِ. لَيْلٌ أَتَاكَ. وَمِنْكَ أَيُّهَا الطِّفْلُ. يَا شَبِيهِيَ. اقْتَرَبْتُ. وَهَبْتُكَ صَمْتِيَ الذي لاَ أَمْلكُ غَيْرَهُ. سَاكِناً بَيْنَ شَقَاِئق النُّعْمان. كَأنَّهُ رَاكِضاً يَغْمُرُ ضِدَّهُ. صَمْتِي الأَزْرقُ سَيِّدي. فِي شَفِيفِ تَمَزُّقٍ. لَنَا مَعاً. أَوْ لِي وَحْدِي.
من ديوان "كتاب الحب"
بياض
بياضٌ
طائـرٌ
لقد ارتحلتُ إِلى مساءٍ
لا
لأتْرُكَ من ورائي
شكْلَ عاصفةٍ
ولكنْ رحمةُ الأقواسِ تلحقُ بي
هُنَاكْ
مُستحيل
إلى مُحمّد الخمّار الكَنُّوني وعَبد الله رَاجِع
لـمْ يـخْتـفِ الغُنْبـازُ عنْ أجـْرام سهْرتِنَـا لـهُ
& كنّـا نُعـدّ تدفّقَ الأمداحِ مـنْ شـطْحٍ إلـى مَاء
وهَذِي النارُ تـحجُبُ يـُشْبها بفصـُولِ
داليــةٍ مُهــدّدةٍ علـى أعتـابـِـهَا
كُنَّا
نُقيمُ
شعيرةً
لتماسُكِ الأضــْواءِ
نُسْلِـمُ يُـتْمَنَا لعَواصـِفٍ تعلُـو بكُلِّ عُروقهَا كنـّا
نحـرّرُ شـمْسَنا مِن غفْلةِ الأشْيـاء نُنشئُ ريحَ أقْواسٍ
هي العتماتُ نسْكُنـُها لتبلُغَ رجْفَةٌ أشْهـى مفازَتِـها
مــدارٌ
مِـنْ عنيفِ الهَتْـك تـخْـتبِرُ اللغـاتُ سـموقَـهُ
وجعٌ لصَمْـت الصّاعـدينَ إلَـى البدَايــة هَــا
هُنَـا كتفّ توسّدُ بئـرَهَا جهـةٌ عَلى أهْوَالــهَـا
وَمـضاتُ عـابِـرةٍ تذكّـرُ بالـهبُوبِ غُبــارَنَا
مَــاذَا
تُريـدُ شسَاعةٌ
وهَبتْ لنَـا أجْراسَـها
لاَشـْئَ غيْرُ الصـمْتِ
فـي ولـَعٍ
ليثْبُتَ مُسْتـحيلٌ
مـنْ
شُقُـو
قِ الـمَـوْتْ
من ديوان "هبة الفراغ"

نشيد
فَاسٌ تِلٌّ مِرْنَانٌ
مُنْخَفِضٌ
أُفُقٌ
لِلْحَفْلِ
بَيَاضٌ حَارٌّ
لاَ يَتَذَكَّرُهُ مَنْ مَاتَ وَ
مَنَ سَيَمُوتْ
فَاسٌ عَرَصَاتٌ لِلرُّوحِ
الوَثَنِيَّةِ
أَشْجَارُ الرُّمَّانِ
دَوَالِي الأَعْنَابِ
النَّارَنْجُ
نَوَاوِيرُ الغُنْـبَازْ
فاسٌ مَجْنُونٌ يَبْحَثُ عَنْ مَجْنُونَتِهِ
يترنَّجُ بيْنَ بَقَايَا
تَنْغِيمِ
ربَابٍ أَنْدَلُسِيٍّ
أَعْيَادٍ لاَ حُلْمَ لَهَا
تَكْوِينِ مَسَاء مُضْطَرِبٍ
شَطَحَات مَنْفِيَّةٍ
مَجْهُولِ الَماءْ

فَاسٌ حَجَرٌ يَتَسَاندُ
أَمْلَسُ
مَصْقُولٌ
بِسَحِيقِ رِيَاحْ
بِدَمٍ
يَتَلاَشَى عِنْدَ هُنَيْنَاتٍ مُتَخَفِّيّةٍ
بِرُبَاعِيةٍ
بِشُحُوبِ صَبَاحْ
من ديوان "ورقة البهاء"