هل التوطين يحل المشكلة؟ سؤال خطر بالبال عندما بدأت أفكر في إصلاح الخلل السكاني الناتج عن الهجرة والإستقدام لتلبية إحتياجات سوق العمل من أجل الإستمرار في مرحلة التنمية والبناء، ومع ظهور البطالة بين فئة من المواطنين الأمر الذي جعل بعض الجهات الرسمية والشعبية تطالب بخطط لمعالجتها لإحتواء آثارها السلبية.
وبدأت بعض الأقلام تكتب عن وجوب أن تتولى هذه الدول تحديد عدد الوافدين ونوعيتهم المهنية مع الأخذ بعين الإعتبار إستمرار التنمية ونسبة العاطلين عن العمل من المواطنين والمطالبة بوضع سياسات يلتزم بها أصحاب العمل وعدم ترك الحبل على الغارب فيما يتعلق بإستقدام عمالة وافدة وفي نفس الوقت بدأت تطالب بوضع وتطبيق سياسة سكانية وتبني إستراتيجيات وبرامج وخطط وإجراءات كافية وصارمة، لحل المشكلة.
وطالبت بعض الجهات الرسمية بوضع أهداف كمية ونوعية قابلة للمتابعة والقياس والتقييم الموضوعي حتى يصبح المواطنون أغلبية متزايدة تعتمد عليها قوة العمل لتعويض النقص في سوق العمل، كما رأت جهات رسمية أخرى أنه ينبغي الإلتزام بالنسب الآمنة للوافدين بحيث لا تتعدى 10% من إجمالي السكان.
وبدأت بعض الجهات بتسليط الأضواء على أثر الإستقدام على البطالة وتأثيرها على الاندماج الوطني إذا ما أرادت تلك الدول أن تقوم بتوطين عدد من الوافدين مع الأخذ بعين الإعتبار إستقرار نسبتهم وتحديدها بناء على قدرة الدولة على إستيعابهم وإندماجهم في المجتمع.
ولكن بعض وسائل الإعلام إتخذت منحى آخر في التعامل مع المشكلة بمطالبة المواطنين بأن يحزموا أمرهم أفراداً وجماعات وأن يؤكدوا إرادتهم لمواجهة الخلل السكاني المزمن بالتعاون مع الأجهزة التنفيذية المسؤولة عن السياسة السكانية وعن الهجرة وإستقدام العمالة وتوطين الوظائف ومتابعة آدائها ومساعدتها بالرأي والنصيحة والوقوف معها ضد ضغوط المنتفعين من الإستقدام والتوطين.
وبدأت هذه الدول وكأنها في حالة حرب تضع الخطط الإستراتيجية لتعبئة كامل قوة العمل المواطنة المتاحة بعيداً عن البطالة المقنعة وتهدف هذه الخطط أيضاً الى تقليل الإحتياجات من القوى العاملة الوافدة، ولكن بعض جماعات الرأي الآخر بدأت تطالب بإلغاء نظام الكفيل وتطالب بوضع سياسة واضحة المعالم على أن تلتزم الدول بتطبيقها لتلحق بركب الحضارة.
ومنظمة العمل الدولية طالبت أيضاً بتبني سياسة التعويض المرحلي للمتضررين من الوافدين وأصحاب العمل من جراء الخطط التي تم تطبيقها لشراء الرضا والحصول على تعاون الأطراف ذات العلاقة وبدأت هذه الدول بوضع خطط طويلة المدى ترتكز على إستراتيجيتين رئيسيتين أولهما: السيطرة على آلية تدفق قوة العمل الوافدة، وثانيهما: إعادة الإعتبار لدور المواطنين بإعتبارهم التيار الرئيسي في المجتمع وعماد قوة العمل.
وبدأت إدارات الأحوال المدنية بإتباع سياسة سكانية تأخذ حتمية توطين عدد من الوافدين، فليست هناك هجرة لم تترك أثرا بشريا وثقافيا، ويمكن أن يكون ذلك الأثر إيجابيا إذا كانت سياسة التوطين في حدود الاستيعاب والقدرة على الإدماج والاندماج الحقيقي في المدى البعيد.
إلا أن وزارت العمل بدأت بخطط لتنمية الحوافز والروادع الذاتية لدى صاحب العمل والمواطنين أفرادا وجماعات ومؤسسات ولدى الوافدين أيضا، من أجل الانسجام مع متطلبات تحقيق الأهداف الكمية والنوعية للسياسة السكانية، وتبنت كذلك سياسات تعتمد على التعليم والتدريب والتطوير أثناء العمل لإعداد كامل قوة العمل الوطنية للوظائف العادية وتلك ذات المحتوى التقني العالي.
وكان هناك إقتراحاً من قبل دور الخبرة والأبحاث بتوصيات لإيجاد مجلس أعلى على المستوى الوطني وربما الإقليمي، وإدارة مركزية لتنسيق السياسة السكانية ومتابعة أدائها، وتقييمه بشكل منتظم ومستمر وتوفير جميع الأدوات وتوظيف الآليات القادرة على تحقيق الأهداف الكمية للسياسة السكانية، الأمر الذي يجعلنا نسلط الضوء على الأهمية الإستراتيجية لتصحيح الخلل، فبينما سياسة الإحلال تخلق مشكلة لجميع الأطراف إلا أن هناك حاجة ماسة وأهمية إستراتيجية عاجلة لتصحيح الخلل السكاني الذي يشكل حجر الزاوية في أجندة كل إصلاح جاد.
ولابد من التركيز على هذا الإصلاح حتى يتم إيقاف مسار ضياع مستقبل المواطنين، لأن تزايد أعداد العمالة الوافدة أضعف قدرة المواطنين على تقرير مصيرهم والدفاع عن مصالحهم المشروعة وتأمين مستقبلهم، ولاسيما أن دور المواطن السياسي والإنتاجي في تراجع مستمر، وأن الإعتماد على قوة العمل الوافدة لايبشر بمستقبل أفضل للمواطنين، كما ينبغي التخلي عن معسكرات عمل الوافدين لبناء مجتمع وطني منتج وفعال وكما يقال في عالم الإقتصاد أن العملة الرديئة تطرد الجيدة من التداول فيمكننا القول أن العمالة الوافدة الرخيصة تطرد العمالة الوطنية الجيدة من القيام بأعمال ذت أجور أعلى وإنتاجية أفضل.
وإذا لم يتم الدمج الكامل والتوطين لنوعية جيدة من الوافدين فإن تلك المجتمعات السكانية سوف لن تتمتع بخصائص المجتمع المتناسق كما أن إختلاف الجنسيات يولد صراع ثقافات وعادات وقيم، الأمر الذي يتطلب من الدول جهود جبارة من أجل توحيد الثقافات والعادات والقيم ولكن كما هو معروف أن الفضائيات لها دور كبير في جذب مواطنيها مما يشكل خطراً وأثراً سلبياً على إرتباط القادمين ببلد الإقامة.
وبسبب الطبقية وتعدد الجنسيات والخلل في التركيبة السكانية سوف تزيد معدلات الجريمة، كما أن هناك عوامل زادت من هذا الخلل ومنها بعض القصور في التشريعات التي كانت تحث على زيادة الإستقدام، والتغاضي عن الهجرة غير المشروعة التي زادت تلقائياً لتعويض النقص في سوق العمل بالإضافة الى إنخفاض معدلات الزيادة الطبيعية وإنخفاض مساهمة المرأة في سوق العمل بناء على بعض العادات والتقاليد التي مازالت سائدة.
كما أدت زيادة الهجرة وعدم توطين الوافدين الصالحين الى نتائج سلبية على الإقتصاد الوطني تمثل في إستنزاف الدخل القومي وإزدياد معدلات التحويلات الخارجية، كما أحدث ضرراً بنسب الإدخار ونمط الإستثمار وزيادة معدلات البطالة، أما في المجال الإجتماعي فكان لهذا الخلل آثاره الخطيرة مما أدى الى زيادة وإرتفاع في معدلات جرائم المخدرات وإرتفعت نسبة جنوح الأحداث وجرائم الخادمات وسوء معاملتهن مما إنعكس سلباً على أطفال المجتمع.
هذا ويستلزم من الدول القيام بجهود كافية لإيجاد حل لهذا الخلل السكاني المزمن بتوطين البعض والعمل على الحد من الإستقدام للوصول بعدد السكان الى الحجم الأمثل لتكون الأغلبية العددية المطلقة للمواطنين، مع إتباع سياسة توطين الوظائف لتحل بموجبه العمالة الوطنية محل العمالة الوافدة غير القابلة للتوطين. كما أن فتح باب التوطين للكفاءات الممتازة والتي قدمت خدمات جليلة لدول المنطقة في المجال التعليمي والإقتصادي وغيرهما والذي قد مضى على وجودهم عقود من الزمن دون الإعتراف بفضلهم كحال بعض الدول التي لاتكرم المبدعين فيها إلا بعد وفاتهم، وبالتالي يكون التوطين أحد أهم العوامل لحل مشكلة الخلل السكاني المزمن.

مصطفى الغريب

شيكاغو