بغداد:ما زال الوسط الثقافي العراقي يعاني من ازمة مجلات ثقافية رصينة ترضي طموح المثقف العراقي بشكل خاص، وكان من المتوقع ان تفرز فعاليات بغداد عاصمة للثقافة العربية مثل هذه المجلات التي يمكنها ان تستوعب نتاجات المثقفين على اختلاف اشكالها والوانها، ولكن لم تتمخض الفعاليات عن ولادة مجلة ذات شأن تكون حضنا لجميع المثقفين وتسرهم اخبارها ومواضيعها، ولكن خابت الامال وظل الحال على ما هو عليه يعلن عن ازمة مجلات ثقافية مميزة وظلت عيون المثقف العراقي تتطلع الى احلام اليقظة البعيدة عسى ان تمطر مناسبة ثقافية غيثها وتخضر الارواح ببرعم مجلة تلبي طموحاته.
ولكن.. لماذا ما يزال بلد مثل العراق لا يمتلك مجلة ذات قيمة ومن الممكن ان يقتنيها المثقف والانسان العادي؟ سؤال يبحث عن اجابة في افكار المثقفين ووجهات نظرهم.

ازمة مؤسسة ثقافية
فقد عزا القاص والروائي حميد المختار الامر الى عدم وجود مؤسسات ثقافية فاعلة، وقال: هذه الازمة ترجع الى المؤسسة بالاساس، ونحن لدينا ازمة مؤسسة قبل ان تكون ازمة مجلة، فليست هنالك مجلة ثقافية تعنى بشكل مباشر بالثقافة والابداع سوى وزارة الثقافة المعطلة التي يهتم وزيرها بوزارة اخرى، وخلفت هذه الوزارة دار الشؤون الثقافية التي تعمل بيد واحدة على ان تحتضن، وهذه لا تستطيع، فاليد الواحدة لا تصفق، على الرغم من ان فيها مجلات متخصصة،فيها الطليعة الادبية والاقلام والمورد والتراث الشعبي، هذا لا يحل الامر، فينبغي ان تكون هناك مؤسسات ثقافية كثيرة ولديها مجلات ثقافية.
واضاف: الجهود الفردية لايمكن ان تنتج مجلة ثقافية رصينة، فسبق ان خرجت مجلات لكنها توقفت بسبب الدعم، فليس في الجهود الفردية يمكن ىحد ان يتواصل،لذلك انا اقول ان في غياب المؤسسة الثقافية ستغيب المجلة المتخصصة.

الثقافة في العراق.. ادب فقط
اما الكاتب حكمت البخاتي، رئيس تحرير مجلة مقابسات، فقد اشار الى الدعم المالي غير الموجود، وقال: المجلة الثقافية العراقية لاتنقصها الطاقات والابداعات، فالقلم المثقف موجود وبقوة والعقل الثقافي العراقي مبدع وبقوة، ولكن للاسف الشديد عندما تنتقل المسألة الى الانتاج فأنها تتأثر بعدة عوامل منها الضعف المادي للجهات التي تصدر عنها هذه المجلات، للاسف الشديد ان المال الرسمي العراقي يصرف باتجاهات عديدة واحيانا باتجاهات الفساد المالي والاداري فيذهب سدى، لكنه في المجال الثقافي هو مال معطل جدا، ولذلك نجد ان المؤسسات التي تقف وراء اصدار المجلات تعاني من المشكلة المادية بالدرجة الاولى، فتكون اصداراتها غير منتظمة وغير تسلسلية، بل متقطعة، اما النقطة الثانية هي ان عملية الثقافة في العراق سائرة باتجاه الادب، القصة والفن والشعر، مما اثر على العطاء الفكري للمثقف العراقي، فأصبحت الثقافة العراقية هوية ادبية وفنية، اما الفكر فقد اصبح شبه غائب عنها.
واضاف: الخلل يتحمله المؤسسة الثقافية في العراق اولا، فهي لا تبادر الى دعم هذه المجلات، وخصوصا المجلات الفكرية وذات الصبغة المستقلة، كما يتحمل خللها الوسط الثقافي العراقي الذي عليه ان يخفف من هذا الاندفاع باتجاه الرواية والقصة والشعر والمسرح، انا لا ادعو إلى الغائها بقدر ما ادعو الى التركيز على اولويات الفكر في عمق الثقافة العراقية، ومن الفكر يمكننا الانتقال الى كل مجالات الابداع في الحياة.
وتابع: مجلتي (مقابسات) تصدر عن جمعية النهوض الفكري وهي من المجلات المبكرة في الصدور بعد عام 2003 وتعني بالعلوم الانسانية والاجتماعية والبعد الفلسفي في المسألة الدينية، وهي فصلية، ما زالت تصدر ولكن الضعف المادي هو الذي يعمل على تأخيرها بالاضافة الى ذلك يفترض ان تكون ادارة التحرير للمجلة متفرغة للعمل باصدارها ولكن القدرة المالية التي لا تملكها المؤسسة تجعلها غير قادرة على خلق مثل هذه الادارة.

غياب المؤسسة الثقافية الرصينة
اما الكاتب الدكتور جاسم محمد جسام فقد اكد ان الخلل يكمن في غياب المؤسسة الثقافية غير الرسمية، وقال: الحديث عن عدم وجود مجلات ثقافية في العراق له عدة جوانب، الجانب الاول هو غياب المؤسسة الثقافية الرصينة التي تنتج مجلات محكمة تخضع للجان ولرقابة قبل صدور النتاج الثقافي، وهذه مشكلة كبيرة جدا، ربما السبب الاول يقع على وزارة الثقافة، فلو راجعنا مؤسسات وزارة الثقافة فإننا نجد ان هذه المؤسسات قليلة وبالتالي انتاجها للمجلات الرصينة والمحكمة قليل اذا ما استثنينا دار الشؤون الثقافية وبعض المجلات التي تنتجها هذه الدار والتي بدأت تضعف شيئا فشيئا بسبب سوء ادارة هذه المجلات وعدم الاهتمام بها بشكل او بآخر، اما الجانب الاخر والمهم جدا فهو غياب المؤسسة الثقافية غير الرسمية التي تنتج مجلات ثقافية، فلو رجعنا الى الدول المجاورة مثلا لوجدنا مؤسسات ثقافية غير رسمية لكنها تنتج مجلات ثقافية محكمة ومهمة جدا يلجأ اليها الادباء لفرز نتاجاتهم.
واضاف: نحن نفتقد المؤسسة الثقافية ومن ثم نقع تحت طائلة العشوائية والارتجال في العمل لذلك تنشأ بين مدة واخرى مجلات ثقافية ما تلبث تنطفيء وتنطفيء على نفسها ثم تنتهي.

الخلل في المادة المقروءة
من جانبه اشار الناقد علوان السلمان الى عدم وجود نتاج جيد،فقال: المجلة تشكل جزء فاعلا من الثقافة المقروءة اليوم تحديدا، ولكن علينا ان نتساءل اولا: هل هنالك ابداع في النتاج لمجلة ثقافية رصينة؟ اقولها: من الممكن مستقبلا ولكن اليوم فنحن ما زلنا في خطواتنا الاولى لكن تبقى مجلة الرقيم التي تصدر في كربلاء تحتل مكان الصدارة قبل المجلات التي اصدرها اتحاد الادباء ودار الشؤون الثقافية مع العلم انها ما زالت في الدور التكويني، برأيي ان الخلل دائما في المادة المقروءة، فمتى ما كانت المادة رصينة وتساير المرحلة وتخدم مرحلة الاديب تكون هناك مجلة متكاملة الابعاد.
واضاف: المصيبة ان مسؤولي المجلات متفاوتون ثقافيا وهذا التفاوت يؤدي الى الارباك في انتقاء المادة،فالمادة قد تكون منتقاة بحكم العلاقات الاجتماعية وهذه ظاهرة غير صحية اطلاقا لاننا نمتلك من الثقافة المزيفة الكثير الكثير، وهذا السبب يتحمله اولا واخرا المثقف المتقدم قبل غيره، حتى اننا احيانا نقف على موضوعات مسروقة واضحة جدا، هذا يعني اننا نحتاج الى اديب يمتلك من الوعي والاشارة عندما يستخدم توظيف المفردة، انا اؤكد اننا بحاجة الى مسألة مهمة جدا وهي: كيف تكتب بحثا؟ ان لم نعرف ما المباديء لكتابة البحث فلنبتعد عن كتابة المقالة او حتى الدراسة النقدية، هذه هي الاسباب التي اتصورها انا واراها.

ثورة الانترنت هي السبب
اما الشاعر محمد جبار حسن فعزا الامر الى الانترنت وغياب المؤسسة الفاعلة، فقال: انا اعتقد ان ثورة الانترنت القت بظلالها على واقع المطبوعات فأصبح التصفح والحصول على المعلومات اسهل بكثير وأقل كلفة من الحصول على كتاب او مجلة ثقافية معينة قد تقطع مسافات بعيدة بحثا عنها، في حين ان الانترنت اختزل المسافة وراح يقدم ما يريده القاريء، انا اعتقد ان هذا هو السبب الحقيقي وراء عدم وجود مجلات ثقافية رصينة، على الرغم من ان ما ينشر في المواقع نتاجات عشوائية وغير جيدة، ولكن المصادفة هي التي تتحكم بالاختيار، الان اصبحت صعوبة الحياة والانسان جراء الوقت الضيق واللهاث اصبح يبحث عن المسائل الارخص التي اشبهها انا بثقافة السندويج، وهذا لا يعني اننا نهمل الثقافة الحقيقية ولكن هذا هو الموجود، لو كانت هناك مجلات حقيقية ورصينة لما تركها القاريء الحقيقي ولذهب اليها اينما كانت.
واضاف: مسؤولية عدم وجود مجلات ثقافية تقع على عاتق وزارة الثقافة والجهات الثقافية بشكل عام وعليها ان لا تفكر بالربحية والخسارة لان المجلات الثقافية رصينة ونوعية وليست فنية ولها قراؤها ومريدوها وبالتالي على الدولة ان تكون داعما اولا وكبيرا لمثل هكذا مجلات رسخت موقعها في الذاكرة العراقية وفي ذاكرة المثقفين.