&

&
لم ينظرْ سائق التاكسي إلى وجه المرأة التي كانت تجلس في المقعد الخلفي هي وابنُها الصغير ذو الثلاثة أعوام إِلَّا بعد سؤاله لها للمرة الثالثة عن وُجهتها وهي شاردةُ الذهن دون إجابة.&
لاحظ كدماتٍ وتنفخاتٍ على وجهها، غطّتها بسرعة بشالٍ أسود كسواد هذه اللحظة بعد أن التقتْ عيناهما في المرآة، ثم كرر سؤاله: إلى أين تريدين الذهاب يا أختي؟
قالت: أعطني مزيداً من الوقت، أريد أن أشتري شيئاً ليأكلَه صغيري أولاً، ممكن لو سمحت؟&
أجاب: طبعاً، طبعاً.. سأتوقف عند السوبرماركت هناك وأنتظرك.&
هي: شكرًا&

وحين كان السائق في الانتظار، شعر بأن عليه مساعدتَها ولكن لم يعرف كيف.. كان مستعداً ليأخذها أينما تريد وبدون أجر.
عادت إلى التاكسي وبيدها كيس. جلست في المقعد الخلفي هي وصغيرها مرّة ثانية وأخذت تحاول إطعام الصغير الذي لم يتوقف عن البكاء للحظة، ثم بدأت الأم في البكاء معه.
&
هو: هل تسمحين لي بتهدئة الصغير؟ عندي حفيد بهذا العمر. دعيني أجرّب.&
أخذ السائق الطفل وأخذ يلاعبه وأشار بإصبعه للطفل لينظر إلى السماء ثم إلى ذلك العصفور الوهمي الذي على الشجرة.. استطاع السائق تهدئتَه وتمكّن من إطعامه قطعة الجبنة.&
هي: أشكرك جداً، لا أدري لماذا انفجرَ في البكاء، في العادة هو ليس كذلك.&
هو: لا تهتمي، هكذا هم الأطفال خاصة عندما تكون الأم حزينة.
&انتبه السائق لملاحظته تلك ثم سكت فوراً، وسأل مجدداً : إلى أين الآن؟&
هي: لا أعرف، أعطني بضع دقائق لأفكر لو سمحت.&
وهنا استجمع شجاعته ليقول لها : خذي وقتك، أتمنى أن يكون بمقدروي مساعدتك. هل عندك أهل أهل هنا؟&
هي: نعم، ولكني لا أستطيع الذهاب إليهم.&
هو: أقارب؟&
هي: نعم، لكن لا فائدةَ منهم.&
هو: أصدقاء؟&
هي: لم يبقَ لي صديقات.&
هو: زوج؟&
هي: نعم، ولكنه طردني مع أنه يعلم بألّا ملجأ عندي.&
هو: وهل ضربك؟
ثم أجهشتْ في البكاء.. انتظرها لتتوقف عن البكاء قليلاً ثم اقترح عليها الذهاب إلى الشرطة.
&فضحكت السيدة وشكرت سائق التاكسي، ثم قالت: خُذنا من فضلك في جولة حول المدينة لنرى أنوار المساء؟ لم أرَ هذه الإضاءة في المدينة منذ وقت طويل، علّ طفلي ينام.. وسأدفع لك الأجرة.
هو: طبعا طبعا، ولا عليك من الأجرة، صِدقاً.&

كانت تنظر من شباك التاكسي وفي عينيها نظراتُ حزن كانت تخترق هذا المساء.. أنوار هنا وهناك، مطاعم وأشخاص يتناولون الطعام مع ضحكات، وهناك من يمشي على الرصيف وآيس كريم، وفتاة وشاب تتشابك أيديهما بفرح..&
ثم قالت: ما أجملَ مدينتي ليلاً! هل كل هؤلاء سعداء؟&
فردّ السائق: لا أدري، يبدو كذلك..&
ثم رأت من الشباك منزلاً أعجبها، وطلبت من الرجل أن يتوقف قليلاً، ومن خلال نافذةِ المنزل رأت عائلةً حول طاولة عشاء وضحكات.. غصّت السيدة وهي تُمعن النظرَ في هذا المشهد الذي أثار حنينَها لأحلام ضائعة ومهشّمة.&

هي: لو سمحت، على اليمين الآن.&
هو: حاضر&
هي: ثم بعد الدوار إلى اليمين مرة ثانية.&
توّقف هنا لو سمحت.&
أشكرك كثيراً، كم الحساب؟&
هو: لن أتفاضى منكِ أجراً، أنا بصدقٍ جادّ فيما أقول. عذراً لتطفّلي لكن هل هذا منزل العائلة؟
هي: هذا منزلُ زوجي ومنفاي، والذي لم أشعر يوماً بأنّه بيتي.. سأعود إليه مرغمةً لأواصلَ حياةَ الموت بصمت وأمارسَ الخضوع وتقبّل الإهمال والتظاهر بسعادةٍ تُشعِرُ أهلي ومن حولي براحة ضمير وطمأنينة بأن ابنتهم "مستورة"! فلا سقفَ آخر ولا مأوى لي ولطفلي، ولا طاقة لي بتحمّل النفقات.. والأكثر إيلاماً أنني في حالةٍ من الخوف الدائم من فقدان حقي في حضانة صغيري أو حتى مجرد رؤيته..&
&
لم يعرف السائق ما سيقول وكان كل ما فعله من أجلها هو التضامن معها والحزن من أجلها بصمت.. هَمّ بمساعدتها في حمل طفلها النائم مع دبدوب مبلّل بدموع الطفل وأمّه، وراقبهما حتى دخلا إلى المنزل.. ثم شاهد ظلّا انهالَ عليها بالضرب!

عاد السائق إلى منزلِه وهو يجرّ ساقَيهِ بألم، وهو الّذي كان يحلم دوماً بأن يكونَ بطلاً وينقذَ أحدا ما..&
ذهب إلى فِراشِهِ بدون عشاء ثم أجهش في البكاء.