يبحث هشام مطر عن والده المخفي في غياهب سجون القذافي، وما زال. في كتابه "العودة: الآباء والأبناء والأرض بينها"، يرسم تأريخًا شفهيًا لأزمات بلاده بإسقاطات أسرية صاغتها المنافي التي عاشها.

إيلاف: "أن تكون ليبيًا هو أن تعيش مع الأسئلة كل يوم". هذا ما يقوله هشام مطر، ويمكن أن هذا القول على السياسيين الغربيين الذين صفقوا لسقوط معمر القذافي ويرون الآن، على الضفة الأخرى من البحر المتوسط مقابل إيطاليا، دولة فاشلة توفر أرضًا جديدة لداعش، وتصدر مهاجرين يائسين يبحثون عن حياة أفضل في أوروبا. 

الماضي والمنافي
في كتابه "العودة: الآباء والأبناء والأرض بينها" The Return: Fathers, Sons and the Land In Between (منشورات راندوم هاوس. 256 صفحة؛ 26 دولارًا. منشورات فايكينغ. 14.99 جنيهًا إسترلينيًا)، يكتب مطر مذكراته بأسلوب جميل، يتناول فيها طبيعة الأسرة والمشاعر في المنفى، والعلاقات التي تربط بين الحاضر والماضي، على وجه الخصوص، بين الابن هشام وأبيه جاب الله مطر، الذي اختفى في سجن ليبي مظلم. 

أما زال جاب الله على قيد الحياة، يرزح في قبو بعد سقوط القذافي أم قُتل في مجزرة 1996 التي حصدت أرواح 1270 نزيلًا في سجن أبو سليم سيئ الصيت في طرابلس؟، هل يستطيع الابن أن يتوصل إلى بعض اليقين من نتف معلومات متناقضة جُمعت على امتداد عقود منذ عام 1990 حين خطفت المباحث المصرية والده في القاهرة وسلمته إلى نظام القذافي؟.

في النهاية، لا يقين. فصور الماضي حالت وبهتت مع الزمن: الأب البطل هارب إلى تشاد في البداية، ثم إلى مصر، حيث التحق بزوجته وأطفاله، ويتسلل أحيانًا إلى ليبيا متنكرًا لرؤية والده، ثم لقاءات بالأهل في القاهرة ولندن ونيروبي، كلها في المنافي، حتى يوم عودة الابن إلى بنغازي، التي عاشت فرحة موقتة بعد مقتل القذافي. 

المصائر المتشابكة
البحث عن جاب الله هاجس يأخذ الابن إلى أروقة السلطة. فديفيد ميليباند وزير الخارجية البريطاني وقتذاك "دافئ ومنشرح الأسارير". وفي مجلس اللوردات، بيتر ماندلسون "بدا بلا عواطف عن سابق إصرار"، ويطلب لورد روتشيلد مستشار المؤسسة الليبية للاستثمار سابقًا من نجله نتانيال ترتيب لقاء مع صديقه سيف الإسلام، نجل القذافي المفضل. 

مذكرات هشام مطر الباحث عن أبيه


الصحافة ومنظمات حقوق الإنسان تطالب بمعلومات. يناشد ديزموند توتو، الفائز بجائزة نوبل للسلام، القذافي "استجلاء مصير جاب الله مطر ومكان وجوده بصورة عاجلة". وحده نيلسون مانديلا امتنع عن المساعدة، "فأفضال القذافي عليه أكبر من أن تجعله يجازف بإغضابه"، على حد تعبير هشام مطر الجارح. 

هل كان بمقدور سيف الإسلام (الذي تحتجزه الآن ميليشيا ليبية، وحكمت عليه إحدى الحكومات المتنافسة في البلد بالإعدام غيابيًا) أن يجيب عن أسئلة مطر؟، ممكن. لكن وعد سيف الإسلام بالمساعدة كان شَرطيًا، حيث لا يمكن الركون إليه، وسرعان ما تجاوزته الانتفاضة ضد نظام أبيه. وكما حذر خبير في منظمة العفو الدولية مطر ذات مرة، "ليس هناك بلد يتشابك فيه المظلوم والظالم كما يتشابكان في ليبيا". 

هشام مطر


من لوحة إلى أخرى
ليس هذا الكتاب الأول الذي يستطلع فيه مطر "الأرض البينية" في بحثه عن والده. فظهر الكثير من مذكراته في مقالة نشرتها "نيويوركر" قبل ثلاث سنوات، لكن ما يتبدى شيئًا فشيئًا من هذا النص الأطول هو صورة أكثر ظلالًا للكاتب نفسه: وُلد في نيويورك حيث عمل جاب الله دبلوماسيًا في الأيام الأولى من عهد القذافي، لكنه عاش الشطر الأعظم من حياته خارج ليبيا التي لا يتذكرها إلا طفلًا. 

والمدن في حياته مرافئ موقتة خلال سنوات دراسته الهندسة المعمارية قبل أن يصبح شاعرًا وكاتبًا موهوبًا، حتى إن روايته الأولى (في بلد الرجال) أُدرجت على القائمة القصيرة لجائزة بوكر، أكبر الجوائز الأدبية البريطانية. ومطر في مذكراته هو الذات الفاعلة وراصد حياة بلا جذور في آن. 

لكن، هل يجب أن يستمر في الأمل بالتوصل إلى يقين؟، كان من عادات مطر بوصفه شابًا فقيرًا أن يدرس لوحة واحدة في الغاليري الوطني. وكانت اللوحة عملًا من أعمال فيلاكويز، لكنه في الخامسة والعشرين نقل اهتمامه فجأة إلى لوحة "إعدام ماكسيمليان" لمانيه، من دون أن يدرك أنه فعل ذلك في يوم المجزرة التي وقعت في سجن أبو سليم. 

وإزاء الاضطرابات الدموية التي تعيشها ليبيا ما بعد القذافي، يكون من المغري أن نتساءل ما الذي يمكن أن يستأثر باهتمام مطر الآن. "غورنيكا" بيكاسو هي المرشح البديهي، لكن بورتريه سيزان لوالده وهو يقرأ الجريدة قد تكون خيارًا أفضل.