مرت قبل أيام الذكرى الثانية لوفاة الشاعر التونسي سيف الدين بن هنية (1991-2015) الذي وافته المنية وهو في ريعان شبابه قبل أن يتمكن من نشر كتابه الأول، وذاك ما حدا بثلة من أصدقائه ورفاقه إلى جمع نتاجه الأدبي المتناثر هنا وهناك ووضعه في كتاب واحد حمل عنوان "غداً يوم أفضل" صدر عن دار ميارة للنشر بتونس. وعلى هامش إحياء هذه الذكرى التقينا مريم بن يحيى صديقة الشاعر الراحل سيف، والمشرفة على جمع وتحرير ونشر هذا الكتاب، فكان هذا الحوار:
&
- مريم، من أنت؟ ومن هو سيف بن هنية؟ كيف اجتمعتما في كتاب؟ هل الأقدار وحدها أم إرادة الإبداع كانت وراء ذلك؟
"أحاول تعلم السير مع القطيع ولا أفلح" هكذا أجاب سيف بن هنية عن سؤال "من أنت" في لقاء عمل كمهندس ميكاترونيك. أما بالنسبة لي فأنا أساسا مهندسة اتصالات وناشطة. لقائي الأول مع سيف كان في إطار جمعياتي حيث أراد الالتحاق بمشروع المجالس المحلية للشباب القادة فرع المنستير الذي كنت أترأسه سنة 2013. استمارته كانت مختلفة. في خانة الملاحظات كتب سيف "لا أعدكم بالنهوض مبكرا". أضحكني ذلك. هو لم يحاول إعطاء وعود زائفة كبقية الشباب. أعجبتني صراحته كثيرا وأخبرني انه اتخذ الليل والقلم رفيقا فلم يبق للنوم سوى الصباح وأنه يفضل مصارحتنا "بعيوبه" على أن يخيب آمالنا بعد ذلك. الغريب في الأمر ان سيف كان أكثر الأعضاء التزاما في حضور اجتماعاتنا صباحا ومساءا وأكثرهم احتراما للوقت. علاقتنا لم تجاوز الحوارات اللازمة لتنظيم بعض النشاطات ولكنه دائما ما كان يحرك فضولي. في سيف خليط مغري من الغموض الحزن والإبداع. تطورت علاقاتنا من علاقة عمل الى علاقة صداقة في مدينة كراكوف ببولونيا حيث باح لي سيف بعديد أسراره. علاقته مع أبيه وأمه، مراحل تطور قناعاته الدينية، حكاياته العاطفية الخاصة، والكثير مما يخفيه فن الإيماء بقصائده. سيف كان يدرس بسوسة وأنا بتونس. مع انتهاء المشروع الجمعياتي اقتصرنا على بعض المحادثات الافتراضية من وقت الى آخر. في فبراير 2015 اتصل بي أحد الاصدقاء المقربين وهو حسام الدين شحدورة ليخبرني إن سيف في المستشفى في حالة غيبوبة وحالته مستعصية. لحظات وكنت في المستشفى وهناك وجدت الكثير من أصدقائنا. مضى شهر من المحاولات اليائسة ضد شبح الموت.. لكنه انتصر كعادته.
&
- الكتاب الوحيد الذي صدر لسيف كان بعد وفاته وجاء يحمل عنوان غداً يوم أفضل. ولقد علمتُ إنك أنت من وقف خلف هذا الكتاب ليصدر. كيف كان ذلك؟ هل يمكن لك أن تحدثينا عن ظروف نشر ذلك الكتاب؟
لا يمكن أن أنسب لأحد معين فكرة جمع كتابات سيف في إصدار أدبي واحد. فقد أتت الفكرة من عديد الاصدقاء في آن واحد بحكم ان الكثير من قراء سيف قاموا بنشر كتاباته على صفحته في الفيسبوك، إلا أن الفكرة لم تتجاوز الكلام إلى أن قررت أنا تحويلها الى واقع، عسانا نتحدى الموت مجددا عن طريق إحياء سيف عبر كلماته وتحقيقِ حلمٍ أخذ الموتُ صاحبَه. غداً يوم أفضل هو كتاب مختلف. هو محاولة لجمع عدد كبير من كتابات سيف التي تم نقلها بالكثير من الأمانة في كتاب واحد. اتصلت بجميع أصدقائه في تونس وفي خارج تونس، وبعائلته، وجمعت أكثر ما أمكن من كتاباته ورسائله. ولكن هذا ليس كل شيء. لقد ضمّ الكتاب أيضا عديد الرسائل التي توجهت لسيف بعد وفاته. حاولت فك شفرات كلمات قصائده حتى أجد ما يساعدني في اختيار نظامٍ مَا لفصول الكتاب أو بعض العناوين. هذا الكتاب ملغم بالأسرار. انه لا ينتمي لشخص واحد بقدر ما ينتمي الى المجموعة.. إلى الحكاية في ذاتها. حكاية سيف وأصدقائه وقرائه. هو عبارة عن محاولة خلق لقاءٍ آخرَ لسماع ما لم يتمّ سماعه من قبل، وقول ما كان لا يزال يُدمي القلب ويريد التحرر. كتاب سيف هو تحدٍ للموت عبر الكلمات واستمرار للحلم عبر الصداقة. هو أيضا نقطة التقاء عديد الفنانين في كتاب واحد. صفاء منصور في لوحة الغلاف "المجهولان".. محمد بوغديري.. نداء مرابط.. والكثير من ملهمي القلم الذين ألهم سيف قلمهم. عملي تمثل أساسا في جمع الكتابات، الاتصال بالأصدقاء، فك شفرات بعض الالغاز حتى يكون الكتاب بتفاصيله وفياً لروح سيف الطاهرة، وجديرا بصداقتنا. تم نشر الكتاب في دار ميارة للنشر وتكفل والدَي سيف بالمصاريف في حين قمت أنا بكل ما هو لوجستي.

- إلى أي مدى يمكن اعتبار غدا يوم أفضل كتابا شعريا بالأساس؟ هل كان لديك أنت ومن معك في إعداد الكتاب ذلك الهاجس المتعلق بقلق الأجناس الأدبية ما بين الشعر والنثر القصيدة والقصة القصيرة والخاطرة وما إلى ذلك..؟
ما أنا بباحثة في الأدب. يعني أكيد انني تساءلت كثيرا عن الطريقة الأدبية الصحيحة في تنظيم النثر ثم الشعر أو الشعر ثم النثر أم التنظيم على أساس محتوى الموضوع وليس على أساس الأجناس الأدبية. سأترك للباحثين في الشعر والأدب عمل نقد يحترم الجنس الأدبي لكتابات سيف. أنا اكتفيت بنقلها كما هي. وإضفاء ترتيب مقتبس من قصيدة "البيان عدد واحد": "أولا عليك السلام.. ثانيا أسألك السلام وثالثا حديقة الشهداء". جانب أول يعرف فيه سيف نفسه. من "سؤال المجرة" الى "شاعر البورديل" الى &"أنا في الطريق".. حيث يحاول سيف رسم ماهيته. ثم الهروب من هذه التساؤلات الوجودية بالبحث عن الحبيبة. يسأل سيف السلام بالبحث عن الحبيبة والوطن. وهي ازدواجية انتماء وضياع وحلم مغرٍ، واصل المأساة في آن واحد. الوطن الثورة الشهداء الحبيبة.. مفاهيم ليس من السهل الفصل بينها بفلسفة سيف بن هنية. الفصل الاخير كان عبارة عن رسائل موجهة لسيف. وبعض المفاهيم حسب نظره. على سبيل المثال : "- ما الحب؟ - الحب هو ما أتمناه بشدة عندما أقرأ لكافكا". آخر جملة في الكتاب مهمة جدا أيضا بنظري حيث يقدم سيف نصيحة عظيمة لقرائه".
&
- على ذكر كافكا.. هل كانت حكاية مخطوطات كافكا التي أودعها صديقه ماكس برود في ذهنك وأنت تشرفين على إداد كتاب سيف غدا يوم أفضل؟
ليس في البداية.. لكن في الأثناء نعم. الحقيقة ان سيف فتح لي باباً للتعرف على قرائه المفضلين. لم يكن من الممكن لي إعداد كتابه دون تبني عالمه الخاص: قهوة بقالب سكر واحد، موسيقى تشايكوفسكي وأقصى الوسط، رسائل كافكا الى والده.. في ذلك الحين انتبهت الى وجه الشبه. والحقيقة انني تساءلت كثيرا إن كان لسيف وصية، لو لم يأخذه الموت فجأة دون انذار أو تمهل، هل كان سيف سيطلب حرق كتابته أو نشرها؟ أرهقني هذا السؤال كثيرا.. لكنني أيضا وجدت إجابات في فك شفرات قصائده. شيء غريب.. كم تمكنا من التواصل معه بعد وفاته.

- فعلا فكرة غريبة تلك التي تقولينها الآن! فكيف تواصلتم معه بعد وفاته؟ هل من تفسير لذلك؟
نعم.. سأفسر أكثر. في عبثية المنطق كتب سيف: كرّر موتك في القصيدة حتّى يرى الكون منتهاك/ أنت وحدك تملك النص ولا يعنيك التأويل/ وأنت حرّ فقط في ما تدوّنه. وفي البيان عدد واحد كتب سيف: ليس لي شيء في ما سيقال عنّي/ ولكم خيالكم وما استطعتم من جسدي/ لا يهمّني تكاثر السيناريوهات حولي بقدر ما يزعجني قدر المخرج سيّء الحظ/ لا ذنب له في غياب المؤرخ.. هذه المقتطفات أزاحت عني ثقلا كبيرا. فكأنه يخفف عني المسؤولية ويقول لي فقط كوني أمينة ولا يهمك التأويل.. لا تحاولي أن توصلي للآخرين ماذا أردت أن أقول بل فقط ماذا قلت واتركي لهم التأويل. وكأنني أنا المخرج سيئ الحظ ولا ذنب لي في غياب سيف، مؤلف الكتاب.. بالإضافة لهذا كان سيف يتساءل كثيرا إن كانت كتاباته سترتقي الى مرتبة الشرف بعد موته رغم أنه لم يكن هنالك علامات توعك صحي واضحة تجعله يدرك انه سيغادر الحياة هكذا فجأة في مقتبل شبابه. إلا إنه ولسبب مجهولٍ، دائما ما كان يكتبُ عن الموت.
&
- حدثيني عن علاقتك الشخصية مع كتاب سيف بعيدا عن شخصه. يبدو انك قد وجدت نفسك أخيرا بطريقة ما وأنت تقومين بجمع وإعداد وتبويب ومن ثم نشر كتاب غدا يوم أفضل.
تزامن موت سيف بمرحلة في غاية الصعوبة في حياتي. كنت في الخامسة والعشرين من عمري. واكتشفت في نفس الفترة الزمنية إن أحد اصدقائي المقربين هو منحرف نرجسي. وكان قد بدأ رحلة تعذيبي والتحكم الكامل بعقلي. كنت بحالة فقدان بصرٍ تامٍ وحالة عذاب قصوى جراء صدمة الاكتشاف هذا . موت سيف وكتاباته طهرت روحي وساعدتني كثيرا في أن أتمسك بمبادئي وما بقي مني من نقاءٍ وأن أتمسك بنظرتي للحياة ولقضايا العدل والوطن والحب الحقيقي بعيدا عن شوائب الانحراف النرجسي. كلمات سيف ساعدتني في إنقاذ نفسي، وكتابه يعتبر أيضا نوعاً من ردّ الجميل.. استمرار صداقة من نوعٍ ما.. كَمْ من الأموات ظنوا خطأ إنهم أحياء، وكَمْ من الموتى أحياء فاعلون.&
&
- اذن هل من الممكن القول إننا يجب أن ننتظر كتابا جديدا بقلمكِ أنت هذه المرة تتحدثين فيه عن تجاربك الشخصية وأفكارك وهواجسك؟
من المحتمل جدا أن اقوم بنشر كتاب عن هذه التجربة. يقال أن التجارب المؤلمة التي لا تقتل تجعلنا نصبح أقوى.. هراء.. هذا هراء. التجارب المؤلمة وإن لم تقتلنا تتركنا ننزف داخليا.. تترك العديد من الجروح التي تحاول الالتئام ولكن يكفي أي عامل صغير يلمسها حتى تُفتح من جديد.. الكتابة هي محاولة تحرر. والكتابة هي أيضا مشاركة القارئ هذا الكم الهائل من الأفكار والأحاسيس.. أذكر إنني كنت حزينة ذات يوم لأن زميلتي في السكن أصيبت بالسرطان. واتصل بي سيف يومها صدفة. أخبرته بحزني فقال: "- الحزن كنز عظيم يا مريم. -كيف ذلك؟ - لولا الحزن ما كتبتُ". إذن من الوارد جدا أن ألجأ للقلم لإخراج هذا الكم الهائل من بركان أحاسيسي في محاولة إبداعٍ ما. ولكني أنتظر فقط أن لا يكون لي خيار آخر. كما يقول باكونين يجب أن تنفجر بالكتابة. لا ليس باكونين.. بوكوفسكي بالأحرى.
&
- هل لديك نية أو لدى عائلة الراحل سيف بن هنية أية نية لإعادة طبع ونشر كتاب غداً يوم أفضل في سبيل تلافي بعض النواقص والهنات التي ربما رافقت الطبعة الأولى؟
&عائلة سيف أعطتني ثقة كاملة في التصرف في الكتاب. مجددا أوضح إن هدفنا الأول كان عدم دفن سيف مرتين: الأولى بموته الجسدي والثانية بدفن كتاباته. حاولت الاتصال بخبراء في الأدب للحصول على نصيحة أدبية في انجاز "غداً يوم أفضل" ولكن حقيقةً لم يكن ذلك بالسهل أبدا. والآن أنا جد منفتحة على آراء النقاد، وكلـّي استعداد لمناقشة آرائهم والقيام بتعديلات شكلية إن اقتضى الأمر. كل هذا من باب الوفاء لسيف وللوطن ومحاولة إثراء مدونة الأدب التونسي &والعربي، ومن باب الصداقة واستمرار رحلة صديق في عالم الشعر الشعراء. لا شيء يمنع هذا.

سيف الدين بن هنية: شاعر وكاتب وناشط تونسي أصيل مدينة المكنين. ولد في 18 حزيران 1991 وتوفي يوم 17 مارس 2015 إثر جلطة دماغية. كان سيف استثنائيا. فرغم مشاركاته الفعالة في بعض المشاريع الجمعياتية لدعم الديموقراطية التشاركية في تونس ما بعد الثورة، وفضاءات الحوار والنقاش وبعض المواقع الإلكترونية إلا انه كان كثير الالتفاف حول نفسه يتحذ من الكتابة رفيقه الدائم. يعرّف سيف نفسه كشاعر فوضوي، كشاعر البورديل أو المبغى الذي يحترم كل من يصل بفكره إلى أقصاه.
مريم بن يحي: من مواليد 1990 شابة تونسية تقوم حاليا بتحضير رسالة دكتوراه في الاتصالات بفرنسا. هي أحد مؤسسي مشروع المجالس المحلية للشباب بسوسة وكانت رئيسة فرع المنستير سنة 2013 حيث التقت سيف بن هنية أول مرة حين التحق بالمشروع كعضو فاعل.&
&