تعتقد شريحة لا بأس بها من المغاربة استطلعت "إيلاف المغرب" رأيها بخصوص مردودية نظام الدوام المستمر المعتمد حاليًا في الإدارات العمومية، وإلى حد كبير في القطاع الخاص، أن النظام المتبع لم ينل حتى الآن رضاهم الكامل، بعدما مضى على الشروع في تطبيقه ما يقرب من عقد من الزمن؛ ذلك أن الغاية المتوخاة منه، أي تحسين أداء الإدارة العمومية، وتقليص استهلاك الطاقة، لم تتحقق، حسب أرقام الاستطلاع (24.14% نعم، و73.41 لا، و3.45 % لا أدري).

إيلاف من الرباط: تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الحديث عن مزايا التوقيت المستمر، وحسن تدبير الزمن الإداري، بدأ في المغرب منذ نهاية عقد السبعينيات، وتحديدًا في عهد حكومة أحمد عصمان، الرئيس السابق لحزب" التجمع الوطني للأحرار"، نقل عنه حينئذ أنه عاد معجبًا ومقتنعًا بفوائد النظام من زيارة قام بها لدول الخليج.&

وبعد عودته بعثت مصالحه باستبيان إلى الإدارات المغربية، تستفسرها إن كان الموظفون يرغبون حقًا في العمل من دون انقطاع، لتوفير عناء المجيء والذهاب أربع مرات في اليوم، ما يؤثر قطعًا على مزاجهم، وضياع الكثير من الوقت أمام زحمة المواصلات، نتيجة توسع المدن ونمو سكانها.

لكن حكومة عصمان أو بالأحرى وزارة الوظيفة العمومية لم تنشر نتائج الاستشارة الأولى، على الرغم من أن نسبة كبرى من القطاعات الحكومية حبذت الإجراء؛ من دون أن تتجرأ الحكومة على نقل رغبتها إلى حيز الواقع، وبالتالي حافظت الإدارة على نظامها، ولجأت بين الفينة والأخرى إلى تجريب بدائل، سببت في الحقيقة ارتباكًا إضافيًا، من قبيل زيادة ساعة على التوقيت العالمي المعتمد في المغرب خلال فصل الصيف، ثم العدول عنه في ما بعد، واستبداله بتمديد الراحة الزوالية، وعودة الموظفين في الساعة الرابعة بعد الظهر في شدة حر الصيف، ليغادروا أماكن عملهم في السابعة مساء وهذه حيرة دلت على ارتباك في حينها.

لقد طبق الإجراء الأخير في عهد حكومة محمد كريم العمراني، وهو رجل أعمال مشهور في المغرب، تولى رئاسة الحكومة مرتين، ينسب إليه أنه نصير لاستمرار الحركة في الإدارة طوال اليوم وعلى مرحلتين.

لم تجرؤ الحكومات اللاحقة على المسّ بالتوقيت "المقدس" لاصطدامه بعادات مجتمعية مترسخة بين فئات المغاربة، يستوي في ذلك الأغنياء والفقراء، وتتمثل في التشبث بطقوس تناول وجبات الطعام الثلاث في مواعيدها، بدعوى أنها مناسبة ولحظة إنسانية يلتئم فيها شمل العائلة، والاقتصاد في تكاليف المائدة، والاعتقاد السائد بين الناس أن الأكل الجماعي يجلب البركة، القليل منه يشبع مثل الكثير، بصرف النظر عن عدد المتحلقين حول المائدة.

في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى مبرر آخر دفع به المعارضون للتوقيت المستمر، باعتقادهم أن الملك الراحل الحسن الثاني، يرفضه على اعتبار أن أهم أنشطته الرسمية كانت تتم بالقصر الملكي بعد العصر، بينما لا يقبل الملك أن تكون عجلات الإدارة متوقفة عن الدوران في تلك الفترة من النهار.

الحقيقة أن كثيرًا من المال العام، صرفته الحكومات المتوالية لقاء إنجاز دراسات أسندتها وزارات الوظيفة العمومية إلى مكاتب دراسات وخبرة، لسؤال المغاربة عن أمر بديهي، لا يمكن أن يتفقوا أو يختلفوا عليه، مائة في المائة، وهو الدوام المستمر في الإدارة. الإجماع مستحيل بخصوص هذه القضايا.

من الطبيعي أن تتحكم عوامل عدة في تكييف أجوبة المستطلعين في هذا الاستبيان أو غيره، فتأتي النتيجة حسب الفئة المستجوبة، تبعًا لظروف وأمكنة العمل. فالموظفون والمستخدمون يتباين رأيهم بشأن موقف المواطنين أو المرتفقين الذين يقصدون الإدارة، فهؤلاء يهمّهم قضاء مصالحهم من حيث السرعة والجودة.

ومن الأسباب الأخرى التي دفعت الإدارة المغربية إلى التفكير في تغيير توقيت العمل، مسألة العلاقة التجارية مع الخارج، حيث الفارق في التوقيت بين المغرب وأوروبا ساعتين في الصيف، ما يؤثر في وتيرة المعاملات معها لكون أوروبا تتبع التوقيت المستمر، وإن كان هذا الأمر مرتبطًا بالقطاع الخاص أكثر منه بالإدارة العمومية.

لا يمكن القول بعد مرور سنوات على اعتماد الدوام واعتياد المغاربة عليه أنه صار معطى ثابتًا مضمون المردودية الإيجابية؛ وهذا ما لاحظناه خلال تتبع انسياب الأجوبة عن سؤال "إيلاف المغرب"، حيث تتنافس كفتا الإجابة بنعم ولا: أحيانًا تتعادلان، ثم ما تلبثان أن تتباعدا (تقدم أصحاب لا)، لكن هامش الذين لا يدرون، يتحرك ببطء شديد.

وإذا كانت فوائد التوقيت المستمر صعبة القياس، لدرجة أن الناس لا يفرّقون أحيانًا بينه وبين القديم، فإن السبب في ذلك يعود إلى أسباب، منها الخلل المزمن في الإدارة المغربية، حيث عدم الانضباط والكسل والبيروقراطية المتخلفة؛ ما يحدث استياء لدى المرتفقين.

تكفي الإشارة في هذا الصدد إلى أن غالبية المصالح الإدارية تتحول إلى أمكنة مهجورة كلما اقترب موعد الأكل في النهار، أو تحولها إلى مطاعم ومطابخ سرية يتفاجأ الزائر لها برائحة البهارات. والدليل أن الضغط المروري يرتفع في المدن الآهلة وقت الغذاء.

ومن الأشياء المعيبة في السلوك الإداري في المغرب أن الكثير من رؤساء الإدارة يعطون المثل السيئ في عدم الانضباط والتقيد بالوقت، ولا يبالون بتوجيه اللوم إليهم، ولا يحترمون بدقة أي توقيت متبع، مع أنهم المستفيدون من خدمات الإدارة أكثر من الفئات الأخرى.

لقد شكل إصلاح الإدارة المغربية، ورشات مستمرة، حاول وزراء كثيرون أن يبرهنوا من خلاله على كفاءتهم ونجاعة تدبيرهم، فإذا بهم يغادرون مناصبهم والإدارة على حالها، إلا مما يمكن وصفه بالتطوير الذاتي الإرادي، بمعنى أن أي إصلاح مفروض من فوق، لا بد وأن يواجه مقاومة شرسة، ما دام لا يؤخذ برأي المستهدفين من أي إصلاح.

يمكن القول في الأخير إن أعطاب الإدارة المغربية في علاقتها بالمتعاملين معها، مواطنين وأجانب، لا تنحصر في مسألة حسن تدبير الوقت، بقدر ما هي ناتجة من عدم ملاءمة منظومة عتيقة، ورثت أسوأ ما كان في الإدارة الفرنسية من عيوب، وبالتالي فإن علاجها سيصبح متاحًا على المدى الزمني القريب، وخاصة بعدما أدخلت جرعات متدرجة من منجزات التكنولوجية الرقمية التي تغني المرتفقين عن التوجه إلى المصالح الإدارية لقضاء أغراضهم، فضلًا عن أن أخطاء التكنولوجيا هي أقل بكثير من تلك التي يرتكبها البشر، وخصوصًا إن كان تأهيلهم ضعيفًا دون المهام المسندة إليهم.

وبما أن المغرب شرع في تطبيق نظام الجهوية يفترض أن يخف الضغط على الإدارة المركزية في العاصمة، وتجري إعادة انتشار الموارد البشرية في الإدارة العمومية، وهذه ورش لا تقل صعوبة عن ورش الإصلاحات التي تحقق النتائج المرجوة منها، من دون الحديث عن مشكلة تحرر الدولة عن الكثير من مهامها التقليدية، علمًا أن العاطلين الجامعيين في الشارع المغربي يطالبون بإدماجهم في الوظيفة العمومية. &

سيختلف تدبير الوقت وتنظيمه في الإدارة، كيفما كان حجمها مستقلًا، وكذا في أماكن العمل. سيكون الأصعب التعامل مع الوقت الثالث، وكيفية تصريفه، مع أنه وقت الراحة بامتياز. &

&

&