طلب إلي أحد القراء النابهين أن أكتب مقالة عن الخطة الخمسية الخامسة التي ألغاها خروشتشوف في سبتمبر 1953 وقد لاحظ هذا القارئ النابه أنني دائماً أبدأ كتاباتي من هناك، من إلغاء الخطة الخمسية الخامسة. لقد نبهني هذا القارئ النابه إلى قصور لدي ؛ فطالما أنني دائماً أبدأ تأريخ التاريخ السياسي من هناك فلماذا إذاً لم أكتب مقالة واحدة عن تلك الخطة الخمسية وهي منطلقي الدائم من بين مئات المقالات التي كتبت!!
بالطبع ليس هناك من جواب سريع ومباشر على هذا التساؤل سوى أن المواطن في حضرموت اليمنية أم في سياتل الأميركية لا يعنيه ولو بمقدار أن يزيد بموجب الخطة إنتاج الصودا الكاوية بنسبة 79% واللحم 92% والسيارات 64%. مئات الصفحات تحدثت على مثل هذا النحو وهو لا يعني الكثير بالنسبة لغير السوفياتيين.
ما يمكن أن نتوقف عنده فيما ورد في مجلد تقرير الخطة هو..

أولاً، زيادة مجمل الانتاج بنسبة 70%.
ثانياً، جبروت الاتحاد السوفياتي.
ثالثاً، انهيار النظام الامبريالي في وقت قريب.
في مسألة زيادة مجمل الإنتاج بنسبة 70% فذلك كان يعني أن الاتحاد السوفياتي سيكون الدولة الأولى في مجمل الانتاج في العام 1955 وستتمتع الشعوب السوفياتية بمستوى حياة لا مثيل له على وجه الأرض وهو ما سيمنع بالطبع الارتداد على الاشتراكية من قبل البورجوازية الوضيعة السوفياتية وعلى رأسها القوات المسلحة التي كانت تشكل الخطر الحقيقي الوحيد على الثورة الاشتراكية. مجريات الحرب العالمية الثانية أظهرت الفرق الكبير بين مقدرات الدولة السوفياتية الاشتراكية من جهة والدول الغربية الرأسمالية الكبرى الثلاث مجتمعة من جهة أخرى، وهو ما دعا ونستون تشيرتشل المعروف بعنجهيته أن يكتب إلى ستالين يقول.. أنا أعي بكل جوارحي أنكم العمالقة (Giants) ونحن لسنا مثلكم، وما دعا ستالين أيضا لأن يرد على تشكيل حلف شمال الأطلسي بالقول.. نحن لن نحاربكم لكن سننتصر عليكم بالمنافسة السلمية. الخطة الخمسية الخامسة كان مقرراً لها أن تحقق هذا الانتصار لو اكتملت. فالإتحاد السوفياتي كان سيثبت أنه ليس أقوى من الدول الغربية مجتمعة بقوى الحرب فقط بل وبقوى الإنتاج أيضاً.
في مسألة الجبروت الحربي للاتحاد السوفياتي فقد زفّ التقرير بشرى لمندوبي الحزب إمتلاك الاتحاد السوفياتي للقنبلة الذرية وهو ما قابله آلاف المندوبين والضيوف بالصياح والتصفيق. وما يلزم ذكره في هذا السياق هو أن الرئيس الأميركي ترومان حاول تهديد ستالين في مؤتمر بوتسدام 1945 بامتلاك أميركا القنبلة الذرية لكن ستالين رد عليه باستخفاف ليقول.. لكنكم ما زلتم بحاجة للإتحاد السوفياتي لمواجهة اليابان؛ وكان ستالين هو الصادق فالقنبلتان الذريتان اللتان ضربتا هيروشيما وناغازاكي لم يكن لهما أي أثر في الحرب حيث حاربت اليابان بعدهما ثلاثة أسابيع طويلة ولم تستسلم في الأول من سبتمبر قبل أن يقضي الاتحاد السوفياتي على كامل الجيوش اليابانية في منشوريا. وما يلزم التنويه به في هذا المقام هو أن الحزب الشيوعي بقيادة ستالين كان دائماً وأبداً ضد العسكرة والإنتاج الحربي وهو ما أكسبه عداء العسكر السوفييت. 
انهيار النظام الامبريالي في وقت قريب كان من أهم القرارات التي اتخذها مؤتمر الحزب التاسع عشر في نهاية 1952، فقد سبق ذلك القرار تحرر سوريا ولبنان من ربقة الاستعمار 1946 والهند 1947 والصين 1949 وقوى ثورة التحرر الوطتي قد تفجرت في شتى أصقاع العالم. ما يحرضنا على التشديد على أهمية هذا القرار تحديداً هو أن شيوعيي الإنهيار يعترفون بانهيار كل الأنظمة باستثناء النظام الإمبريالي!! ووصل الأمر بأحد تلامذة ستالين لأن يقول بأن ستالين لم يكن يعلم أن الظروف ستتغير ولذلك لم يكن رأيه في العام 1952 بانهيار النظام الامبريالي في وقت قريب صحيحاً. ستالين قطع في الأمر قبل الانهيار الكامل للنظام الإمبريالي بعشرين عاماً وهذا التلميذ غير النجبيب ما زال يعتقد أن النظام الامبريالي ما زال قائما بعد انهياره بأربعة عقود.
في أحايين كثيرة تراودني فكرة بصعب علي التنكر لها وهي أن نقطة البداية يجب أن تكون من هنا وليس من هناك، من حقيقة انهيار النظام الرأسمالي الامبريالي في العام 1971 حين عجزت الولايات المتحدة الأميركية وهي حصن الرأسمالية الحصين عن توفير الغطاء لنقودها، وليس من إلغاء الخطة الخمسية الخامسة من قبل خروشتشوف في العام 1953.
ليس هناك ما هو أكثر استهجاناً من إنكار انهيار الامبريالية وخاصة أن الأمم المتحدة أعلنت ذلك رسمياً في إعلان خاص في العام 1972. ليس من تفسير لهذا الموقف المستهجن سوى أن الأحزاب الشيوعية وقد اصطفت جميعها وراء خروشتشوف الذي تسبب أولاً وأخيراً بانهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، هذه الأحزاب فضلت أن تبقى على عمهها من أن تعترف بخطئها لا بل خطيئتها في المساهمة بتقويض المعسكر الاشتراكي وليس من ستر لفضيحتها سوى الادعاء بالوطنية ؛ لكن لخيبة هؤلاء من أدعياء الشيوعية هو أن الوطنية لا تتحقق إلا مع نقيضها وهو الإمبربالية والإمبريالية لم تعد موجودة منذ سبعينيات القرن الماضي. أدعياء الشيوعية هؤلاء هم أسوأ من الشبوعيين سابقاً الذين انقلبوا على الشيوعية وقد أعلنوا إفلاسهم.


ما لم تنص عليه الخطة الخمسية الخامسة هو أهم بكثير من مختلف مقررات الخطة. مراقبتنا الحثيثة لمختلف الشروط التي حكمت مجريات العبور الإشتراكي في الخمسينيات تقول التالي..


لأول مرة يدعو الحزب الشيوعي البولشفي لندوة تضم قادة الحزب والدولة وأخصائيين في الاقتصاد تبحث في القضايا الإقتصادية للإشتراكية في الاتحاد السوفياتي في العام 1951 وقد نشر ستالين أبحاث الندوة في كتاب خاص بتلك الأبحاث. 
لأول مرة يتحدث ستالين عن الصداقة بين الطبقات في المجتمع الاشتراكي وهو صاحب نظرية زيادة احتدام الصراع كلما تقدم عبور الاشتراكية، والوقوف عند هذه المفارقة قاطع الدلالة وعظيم الأهمية. وقف ستالين بوجه كتلة وازنة برئاسة مولوتوف في الندوة تطالب بإلغاء طبقة الفلاحين.
وقف ستالين في مؤتمر الحزب العام التاسع عشر في نوفمبر 1952 يناشد المندوبين أعضاء المؤتر عدم انتخاب جميع أعضاء القيادة في المكتب السياسي بمن فيهم ستالين نفسه لأنهم، كما قال، لم يعودوا قادرين على العمل الشيوعي نظراً لتقدمهم في السن ؛ لكن المؤتمر أعاد انتخاب جميعهم. إذاك عبر ستالين عن قلقه على مصائر الثورة الاشتراكية بمثل تلك القيادة وطالب بانتخاب 12 عضواً من الشباب يضافون إلى المكتب السياسي وهو ما كان.
على العشاء في 28 فبراير 53 تمكن وزير الأمن لافرنتي بيريا من دس سم الجرذان (warfarin) في شراب ستالين وهو ما تسبب له بجلطة دماغية وقد منع عليه المتآمرون الثلاث، بيريا ومالنكوف وخروشتشوف الإسعاف الطبي لفترة 36 ساعة فكان أن توفي في 5 مارس.
صباح 6 مارس وقبل أن يمضي على وفاة ستالين عشر ساعات اجتمع المسنون السبعة في المكتب السياسي وقرروا إبطال انتخاب الأعضاء الجدد الإثني عشر الذين أصر ستالين على إضافتهم إلى المكتب السياسي كي يطمئن على مستقبل الثورة وذلك ليس بالطبع من صلاحيتهم.
بتآمر العسكر مع خروشتشوف استدعيت اللجنة المركزية للحزب في سبتمبر 53 لتقرر إلغاء الخطة الخمسية وتحويل الأموال المخصصة لتنفيذها إلى إنتاج الأسلحة فكان أن استقال مالنكوف كأمين عام للحزب احتجاجاً على ذلك القرار المصيري وهو لم يكن من صلاحية اللجنة الركزية التي كانت قد انتخبت لتنفيذ الخطة وليس لإلغائها.
بعد انتهاء اعمال المؤتمر العشرين للحزب في فبراير 56 طلب خروشتشوف جلسة إضافية ألقى فيها خطاباً شخصياً لا علاقة للحزب به يدين ستالين بكل التهم التي كانت تلوكها المخابرات الغربية. الخطاب أملاه عليه العسكر.
في يونيو 57 قرر المكتب السياسي سحب الثقة من خروشتشوف وبدل أن يتنحى عن الأمانة العامة للحزب ورئاسة مجلس الوزراء تعاون مع صديقه وزير الدفاع المارشال جوكوف وقاما بانقلاب عسكري تم بموجبه طرد الأعضاء الذين سحبوا الثقة من خروشتشوف وعددهم سبعة والابقاء على عضوبن فقط هما خروشتشوف نفسه وميكويان.
إفتتح خروشتشوف أعمال المؤتمر الحادي والعشرين للحزب في يناير 59 متفاخراً بأعمال ستالين لكنه طالب بفصل الثورة الإشتراكية عن الثورة الوطنية بادعاء أن مغامرين يقودون الثورة الوطنية – يقصد عبد الناصر- حيث هاجم انذار بولغانين لدول العدوان الثلاثي على مصر وانذار شبيلوف لكل من بريطانيا وأميركا طالباً سحب قواتهما من الأردن ولبنان في يوليو 58 ,
في مؤتمر الحزب الثاني والعشرون في أكتوبر 61 أفصح أعداء الاشتراكية على لسان خروشتشوف عن أهدافهم الرجعية المعادية فتم إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا والتي هي الدمغة الماركسية للاشتراكية واستبدالها ب "دولة الشعب كله" أي دولة العمال والفلاحين والبورجوازية الوضيعة والعمل على الاستقلال المالي للمؤسسة الانتاجية.
في اكتوبر 64 كان خروشتشوف في رحلة تفتيش في الجنوب فاستدعي على عجل لحضور اجتماع طارئ للمكتب السياسي وعندما وصل إلى مقر الحزب وجد جنرالات مسلحين يهددونه بالقتل أو بالاستقالة. خروشتشوف الذي باع الحزب لأكثر من مرة رضخ لأمر العسكر واستقال ,
السؤال المفصلي هنا هو كبف يجوز البحث في أسباب انهيار الثورة الاشتراكية دون المرور بهذه المحطات الحديّة في تقرير مصائر ثورة أكتوبر الاشتراكية والارتكاس على حجة فشل الثورة بسبب تخلف روسيا القيصرية!؟