تبين مما سبق أن بحثناه في الحلقتين السابقتين، بأن هناك ثقوباً سوداء لامتناهية في الصغر، مادون ذرية،وهناك ثقوباً سوداء لامتناهية في الكبر وبينهما عدة مستويات وأحجام لمليارات من الثقوب السوداء الأخرى المختلفة والمتنوعة ، ومنها ثقوب سوداء بحجم كوننا المرئي برمته ، بل ربما يكون كوننا المرئي ليس سوى ثقب اسود فائق يحتوي بداخله كل هذه المحتويات المحيطة بنا، ومنه يمكننا الولوج إلى أكوان ــ ثقوب سوداء عملاقة أخرى. وبالتالي يتعين وضع مسألة الثقوب السوداء في سياقها الحقيقي في الأفق الكوني. 

على مدى عقود طويلة بحث العلماء عن بصيص ضوء في مجمل الثقوب السوداء بكل أحجامها من الميكروسكوبية مادون الذرية إلى تلك التي يصل حجمها بحجم كوننا المرئي، مروراً بتلك التي يصل قطرها إلى عشرة كيلومترات أو تلك التي يصل حجمها بما يعادل نظامنا الشمسي أو حتى بحجم مجرة بكاملها، فلا يوجد جواب على سؤال ما هو أكبر ثقب أسود موجود اليوم؟ أغلب المتخصصين بالثقوب السوداء وفي مقدمتهم ستيفن هاوكينغ، سوف يجيبون بجملة ساخرة لكنها معبرة وذات دلالة، وقد تكون إجابة علمية لو أتيحت الظروف لإثباتها وهي جملة: " إن كوننا المرئي ما هو إلا ثقب أسود مهول لو نظرنا إليه من خارجه". ولكي ندرك أن مثل هذا المفهوم ليس جنونياً أو ناجم عن مخيلة مجنونة، علينا أن نتذكر العناصر الأساسية لعلم الكونيات أو الكوسمولوجيا الحديثة وهي ثلاث تتيح لنا ، بفضل وبمساعدة الإنجازات الفيزيائية النظرية والتجريبية، أن نقدم تفسيراً منطقياً مقبولاً ونقوم برسم تاريخ الكون المرئي: هروب أو تباعد المجرات، والوفرة النسبية للعناصر الخفيفة، وهي الهيدروجين والدوتيريوم والهليوم، والتي لم تتكون داخل النجوم بموجب تفاعلات نووية كما هو حال باقي العناصر، ورصد الأشعةالكونية الخلفية الميكروية الأحفورية المنتشرة، ومؤخراً، اكتشاف الموجات الثقالية أو موجات الجاذبية ، حيث أن المعطيات الثلاثة الأولى تثبت لنا أن الكون في حالة تمدد وتوسع مطرد منذ ما يربو على الخمسة عشر مليار سنة، انطلاقاً من مرحلة متناهية الكثافة والسخونة إلى درجة أن تكونت فيها فرادة كونية singularitéكانت منطلقاً لما صار يعرف بالانفجار العظيم أو البغ بانغ. عمليات الرصد والمشاهدة والتجارب المختبرية كشفت لنا جانباً من ماضي الكون المرئي، بيد أن النظرية وحدها هي التي تعطيناً تصوراً عن مستقبله ومصيره الافتراضي. لأن الجاذبية أو الثقالة تهيمن على تنظيم البنيات المادية على المستوى الكبير جداً، أي اللامتناهي في الكبر، كما تقدم لنا نظرية النسبية العامة لآينشتين نماذجاً مقبولة للجيوميتري الكونيةgéométrie cosmique أو الهندسة والصيغة التكوينية للكون المرئي والظروف التي أحاطت بماضيه. أما فيما يخص التطور الكوني المستقبلي فهناك رؤيتان متناقضتان تتنافسان وتتواجهان، الأولى تقول بكون في حالة توسع وانقباض أو تقلص وانكماش ومحدود في الزمان والمكان، والثانية تقول بكون في حالة تمدد وتوسع دائم ولا محدود وهو كون لانهائي. وبين هذين المصيرين يلعب متوسط كثافة المادة دور الحكم. فلو كان متوسط كثافة المادة أقل من القيمة الحرجة، وهي 10-29 غرام في السنتمتر المكعب الواحد ــ أي ما يعادل ست ذرات هيدروجين في المتر المكعب من المكان ــ فإن الحقل الثقالي الكوني لن يكون بالقوة الكافية للحفاظ على تماسك وترابط المادة، عندها سوف يتمدد الكون إلى ما لانهاية. أما في الحالة المعاكسة، فإن الجاذبية أو الثقالة ستنتصر على التوسع وسوف ينكمش الكون ويتقلص عند حد معين وينهار على نفسه بعد مائة مليار سنة ــ 1011 ــ في ما يشبه البغ بانغ Big Bang المعكوس والذي يسمى الإنكماش العظيم بغ كرونشBig Crunch .وأياً كان المصير الذي سيواجهه الكون المرئي، فإن للثقوب السوداء دور أساسي تلعبه في هذا المجال. سبق للعالمان فريمان دايسون Freeman Dyson و جمال إسلام Jamal Islam، الأول من معهد الدراسات المتقدمة في جامعة برينستون، والثاني من جامعة لندن، أن تساءلا عن تطور الكون المرئي على المدى البعيد ، بخصوص كون مفتوح وغير محدود وذو تمدد وتوسع مستمر ودائمي، ووجدا نظرياً ورياضياً، أن هناك صيرورات فيزيائية تحدث على مدى زمني طويل جداً لدرجة أنها لم تبدأ بعد منذ خمسة عشر مليار سنة من عمر الكون المرئي وسوف تدخل حيز الوجود آجلاً أم عاجلاً. وهكذا في نهاية 1027 سنة تكون النجوم المنطفئة قد اتجهت نحو مراكز المجرات وتشكل ثقوباً سوداء مجرية الحجم 1011 م . ومن ثم ستشتت حركات المجرات داخل العناقيد المجرية Les Amas طاقاتها المدارية على شكل إشعاعات ثقالية ، وبعد 1031 سنة ستسقط المجرات في قلب الحشود المجرية لتندمج مكونة ثقوباً سوداء مجرية فائقة الأحجام 1015م . وعلى مستوى زمني أطول بكثير تبدأ الصيرورة المعاكسة بإنجاز عملية التفكك أو التحلل الكمومي أو الكوانتي désintégration quantiqueللثقوب السوداء حيث ستتبخر الثقوب السوداء النجمية stellaires بحدود 1067سنة ، أما الثقوب السوداء المجرية super galactiques فسوف تتفكك بعد 1097سنة، في حين ستتفكك الثقوب السوداء المجرية الفائقة supergalactiques بعد 10106 سنة ، وبصفتها المخازن القصوى للطاقة الكونية والأنثروبي ، فإنها ستغدو مماثلة analogues للثقوب البيضاء التي ستعيد محتوياتها من المادة للكون الخارجي ولكن على نحو منحط dégradée من إشعاع الجسم الأسود. وتساءل العالم فريمان ديسون أنه، بالرغم من الظرف غير الملائم لكون مكرس لا محالة للذوبان والانحلال والبرودة، ربما توجد حضارات كونية متطورة يمكنها أن تبقى على قيد الحياة من خلال استرجاعها لطاقة الثقب الأسود . إن هذا السيناريو التخيلي يتواجد في تناقض تام مع إحدى تنبؤات النظريات المعاصرة لفيزياء الجسيمات physique des particules، التي تقول أن البروتون ليس خالداً بل سوف يتفكك بعد 1032 سنة . من هنا فإن تحلل البنيات المادية والأنظمة الحية في الكون المرئي تبدأ قبل بدء إعادة الثقوب السوداء لطاقتها.

ولو درسنا تبعات كون في حالة تمدد وتوسع ومن ثم تقلص وانكماش expansion et contraction ، محدود ومحصور في الزمان ومحدود في المكان، فإن المعدل المتوسط للكثافة لكون يبدو مغلقاً ، هو ثقب أسوط بقطر 1023م حيث سيبلغ قطره الــ 40 مليار سنة ضوئية، والحال إن أكبر مسافة مقطوعة من قبل الضوء لحد الآن في الكون المرئي، لم تتجاوز الخمسة عشر مليار سنة ضوئية. وهذا يعني أن الكون المرئي موجود داخل قطر rayon أو شعاع شوارزشيلد Schwarzschild، ما يعطينا الانطباع بأننا نعيش داخل ثقب اسود فائق الحجم بقدر كوننا المرئي أي أن كوننا المرئي يمكن أن يكون نوع من أنواع الثقوب السوداء. 

هناك الكثير من الحجج النظرية التي تدعم أطروحة أو وجهة النظر التي تقول بأن الكون المرئي هو ثقب أسود يحتوي بداخله على عدد هائل من الثقوب السوداء. كما تجدر الإشارة إلى أن كوناً مرئياً من النوع المغلق وفيه اتساع وتقلص أو انكماش، يمتلك أفق حدث كما هو الحال مع الثقب الأسود أي حدود معينة للزمكان توجد بداخله أحداث لايمكن بلوغها أبداً لأن إشاراتها الضوئية لن تصل إلينا على الإطلاق. ومرتبطة بفرادة مستقبلية singularité du futur، التي تؤدي إلى الإنكماش العظيم Big Crunch، فإن هذا الأفق الكوني ، منظور له من الداخل، هو من نفس طبيعة أفق الحدث الذي يشكل حدود الثقب الأسود الخارجية ولكن منظور له من الخارج. يمكننا والحال هذه القول بأن نفترض أنه إذا كان الكون المرئي مغلقاً clos فذلك يعني وجود عالم خارجي مقابله، يبدو كوننا المرئي حينئذ مجرد منطقة مخفية في عمق ثقب أسود أكبر منه بكثير . وهذا يفتح أفقاً واسعاً أمام دراسات كوسمولوجية قادمة في مجال نظرية تعدد الأكوان ، ويسمح لنا أن ندرس كيفية تحول كوننا المرئي إلى ثقب أسود دون أن نشعر بذلك. ونتساءل ، هل كان كوننا المرئي منذ البدء ثقباً أسود أولي أو بدئي داخل كون خارجي عنه أوسع وأشمل؟ وهل يمكن أن يكون نتيجة لانهيار نجم هائل الضخامة، أكبر من نظام شمسي بأكمله، على نفسه 1023 ؟ في هذه الحال لن يكون الكون ألأوسع الخارجي فارغاً ، بل هناك مجرات بأكملها ، وربما أشكال مجهولة من مواد غير معروفة، يمكن أن تقع من الكون الخارجي وتنبثق أو تظهر داخل كوننا المرئي. والنتائج الأكثر جذباً attrayante في الكون ــ الثقب أسود، هي الكشف عن سلوكيات غير متوقعة وغير مألوفة وغير عادية للمادة داخل الثقب الأسود. النسبية العامة تتنبأ بأن التقلص أو الإنكماش الثقالي contraction gravitationnelle لجرم سماوي هائل ولكن تحت مستوى إشعاع شوارزشيلد سيستمر إلى حد الانسحاق في فرادة مركزية ، ولكننا نعلم أن النسبية العامة نظرية غير كاملة ، وبغياب نظرية أكمل عن الثقالة الكمومية أو الكوانتية théorie de de la gravitaion quantique فإننا نجهل ماهية القوانين التي تسير وتتحكم بمصير المادة داخل ثقب أسود. فنموج الكون ـ الثقب الأسود من نوع المتوسع والمنكمش تعاقبياً، يمكن أن يثبت أن الانهيار الثقالي داخل الثقب الأسود يمكن أن يتوقف او يقطع قبل بلوغ الفرادة بسبب مقاومة قصوى وأخيرة من جانب المادة لا نعلم خصائصها بعد في الوقت الحاضر، مثل تفاعلات نابذة أو طاردة تظهر لبرهة زمنية قصيرة تعمل على ارتداد المادة في النجم المنهار، وعلى غرار كون كامل، تجعله يتأرجح بين حالة فائقة الكثافة وحالة متمددة تملأ داخل كرة شوارزشيلد، ومثل هذا السلوك يمكن أن يبدو بديهياً يوما ما بفضل النظرية الجامعة لكافة أنواع التفاعلات الجوهرية حيث يتم تصفية الفرادات الثقالية نهائياً. ومن شأن هذا النموذج للكون ــ الثقب الأسود أن يعالج موضوع وحدة الكون. فماهو وضع عالمنا بالنسبة للكون المفتوح الخارجي الأشمل والأوسع؟ وهل يمكننا أن نتعاطى مع نوع من المراتبية الكونية أو التسلسل الهرمي للأكوان؟ مثل اللعبة الروسية La poupée Russe ، أي كون في بطن كون من الأكبر إلى الأصغر ؟ النظريات الحديث تحدثت عن الأكوان ــ الفقاعات univers –Bulles وعن الكون المطلق والأكوان النسبية أو الأكوان ــ الجسيمات وكل واحد منها هو بمثابة كون متكامل على غرار كوننا المرئي لكنه ليس سوى جسيم كوني في جسم الكون المطلق الحي.