إيلاف من بيروت: راهن المشاهد هذا العام على مسلسل "سقوط حر" للثنائي نيللي كريم ومريم نعوم، وحاولت شركة العدل غروب المنتجة للعمل تعويض غياب كاملة أبو ذكري عن الفريق، بشوقي الماجري وهو إختيار ممتاز دون شك، فجمع هذه الأسماء معاً رفع نسبة التوقع لدى المشاهد، ولكن في المحصلة نجحت نيللي أداءً، والماجري تقنياً، بينما سقط النص سقوطاً حراً في دائرة الملل.

بداية قوية

فالحلقة الأولى بدأت قوية بلغز العثور على ملك (نيللي كريم) وهي تجلس في شقتها تحت تأثير الصدمة وبيدها المسدس الذي قتلت به شقيقتها وزوجها.

الإفتراض الأول لرجال الشرطة أن ملك هي القاتلة، ولأنها في حالة ذهول وصدمة وصمت تحول هذا الإفتراض إلى حقيقة، وتقرر إرسالها للعباسية (مستشفى أمراض نفسية حكومي ) لتقييم حالتها الذهنية وتحديد مدى مسؤوليتها عن الجريمة. وتسقط النيابة المسؤولية الجنائية عنها.

بالتالي ملك التي لا تتذكر شيئاً من أحداث تلك الحادثة المشؤومة، ترزح تحت تأنيب الضمير لأنها صدقت ما قيل لها بأنها قتلت، وأخذت هلاوسها وتخيلاتها تصور لها مواجهات مع شقيقتها ووالدتها، ويطغي عليها شعورين: الذنب تجاه ندى والنقمة على والدتها (صفاء الطوخي) التي قست عليها في طفولتها، وربتها تربية صارمة بينما تساهلت مع أختها وفرقت في المعاملة بينهما، وحتى الآن فشلت "الفلاش باكات" وجلسات التحليل النفسي لملك ولوالدتها في إقناعنا بمبررات ودوافع كل منهما، كما فشلت في تصوير طبيعة العلاقة بين ملك والضحية ندى وحتى في تصوير العلاقة بين ملك وزوجها.

الشخصية المحورية الثانية بعد ملك، هي زوج ندى سليم (أحمد وفيق) الذي يتآكله الشك ويؤرقه سؤال هل كانت زوجته تخونه؟ لكنه يبدي في نفس الوقت تعاطفاً غير مبرر مع القاتلة (ملك) ويسعى بشكل كبير للتخفيف عنها وينجح في نقلها الى مستشفى خاص للعلاج، ويحرص على زيارتها بإستمرار ويهتم بإبنها وأمها ويحل مشاكلهما، في القوت الذي تقابله فيه ملك بفتور وتوتر يثير إستغراب (محمد فراج) الطبيب الذي يدرس حالتها.

إنجي المقدم، أخت زوج ملك وعمة إبنها تجد نفسها ناقمة على ملك لأنها قتلت شقيقها، وخائفة على إبن أخيها من أن ينتهي به الحال كأمه، إذا ما بقي عند جدته، التي تعاني من مشاكل نفسية غير ظاهرة تنعكس على تصرفاتها مع حفيدها، فهي عاجزة عن إبداء أي مشاعر إيجابية تجاهه، ومفهومها عن التربية هو الصرامة وحسب.

فتقرر العمة أن تأخذه ليعيش معها ومع أبنائها، ولكنها هي الأخرى ترزح تحت ضغط شديد لأن زوجها غائب للعمل في السعودية، وعلى عاتقها تقع مسؤولية الأب والأم، وهي كارهة للحي البسيط الذي تعيش فيه وتتعالى ناسه وتسعى للإنتقال للعيش في "حتة نظيفة".

أجمل ما في العمل أنوشكا فهي الإنسانة السوية الوحيدة وسط كل هذا الكم الهائل من الجنون، وآدم إبن ملك الذي قيل له بأن والدته في المستشفى لأنها دخلت في حالة إكتئاب بعد وفاة والده وخالته بحادث سيارة، فهو شخصية إيجابية وذكية، يحاول فهم حالة والدته من خلال القراءة عن طبيعة الأمراض النفسية، ويبدأ بتحليل كل من حوله، وتشخيص أمراضهم النفسية، لكن تعلقه بوالدته ولهفته على خروجها بدأت تهدده إمكانية إكتشافه لحقيقة ما حدث.

السقوط في فخ الكليشيهات والمباشرة والملل

الخط الدرامي الأساسي شيق لو ركز عليه كتاب السيناريو، وتوسعوا فيه، وفي تحليل ماضي ملك وندى وزوجيهما، ودوافع صفاء الطوخي التي تم تناولها بشكل سطحي، فجلساتها مع دكتور ملك النفسي مسلوقة، والتحول في شخصيتها مسلوق هو الآخر، بينما تم التشعب في حكايا جانبية تراوح محلها على حساب حبك الشخصيات الرئيسية وتفسير طبيعة العلاقات فيما بينهم ومنحها العمق المطلوب.

فحكايا شادي ورؤى وحسام والبنت المسترجلة والبنت المتحرش بها الخ ... تأكل من متعة المشاهدة وتدمر الخط الدرامي الرئيسي ولا تغنيه، لأنها مجرد عرض ونقد مباشر لسلوكيات مجتمعية تعتبر (كليشيهات)، شاهدناها في أكثر من عمل سابق، سواء في السينما أو الدراما. وتم عرضها وكأننا في وثائقي أو برنامج إجتماعي، وهي مباشرة مرفوضة في الدراما.

تميز لم يخدمه النص

نيللي كريم قدت أداءً ممتازاً في المجمل، ولكنها سقطت مجبرة في فخ الملل والتكرار، مع دخول كليشيه الطبيب الشريروالدواء التجريبي والممرضة الفاسدة على الخط، لانه خط مقحم وليس مرتبطاً بأصل الحكاية (الجريمة ودوافعها وتفاصيلها) وآخر ما يحتاجه المشاهد هو إطالة أمد اللغز أكثر مما يحتمل.
فالحكايا الجانبية يفترض أن تغني الخط الدرامي الأساسي لا أن تضعفه، وزيادة جرعة الكآبة والمرض لا يفترض أن تكون فوق إحتمال المشاهد فتصل لدرجة تنفره من إستكمال مشاهدة العمل.

نفهم أن يقع الفريق تحت سكرة نجاح سجن النسا، ومن بعده تحت السيطرة بدرجة أقل، ونتفهم الإغراء الذي وقعت فيه نيللي كريم بإختيار شخصيات تسمح لها بإستعراض مهاراتها التمثيلية بعد أن ظهرت جلية في "ذات" ومن بعده "سجن النسا"، وبرأينا أن "تحت السيطرة" كان مغامرة نجحت نسبياً، ولكن "سقوط حر" كان مغالاة في المغامرة بتقديم جرعة زائدة من الكآبة المفرطة للمشاهد، وإستهلاك لقدرته على الإحتمال. خصوصاً وأن النص تائه، فيما يبدو أنه إستسهال لتركيبة نجحت في السابق لكنها فقدت بريقها في المحاولة الثالثة، والثالثة لم تكن ثابتة هذه المرة.

نهاية متوقعة

شوقي الماجري قدم صورة بصرية رائعة، وتنفيذه للهلاوس ممتاز، ولكنه أيضاً مكبل ببطء تقدم النص، فسقط الإيقاع الدرامي منه سقوطاً حراً. فالـ 23 حلقة الماضية كان يمكن شدها لتكون شيقة في 10 حلقات على أقصى تقدير، وحتى الآن ونحن في الحلقة 23 لم تتوضح بعد الأسباب المنطقية التي أوصلت ملك الى هذه الحالة، وبقيت "بارانويا" سليم تراوح محلها، فالفكرة وصلت منذ 10 حلقات بأنه شخص غير سوي وغير متسق مع ذاته ويبني سيناريوهات في خياله، وفرضية أن يكون هو من زرع في رأس ملك قصة العلاقة بين زوجها وشقيقها باتت واردة منذ عدة حلقات، تقابلها الفرضية الثانية بأن يكون هو القاتل وملك ضحية بريئة وقعت تحت صدمة الحدث، وإن إهتمامه بها ما هو إلا ترجمة لشعوره بالذنب لأنه مدرك لبراءتها وهو ال (Twist) المرجح من وجهة نظرنا على الأقل الذي يمكن أن تكشف عنه الحلقات القادمة.