بقلم الدكتور عودة أبو ردينة

يوم 28 أيلول/سبتمبر 2016 أسقط الكونغرس الأميركي بمجلسيه الفيتو الذي وضعه الرئيس باراك أوباما على «قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب» المعروف اختصاراً بقانون «جستا»، بأغلبية 97 صوتاً مقابل صوت واحد في مجلس الشيوخ، وبأغلبية 348 مقابل 77 صوتاً في مجلس النواب. وهذا القانون مفاده، باختصار، المال، ثم المال، ثم المال لتسمين جيوب محامي الادعاء الذين يموِّلون كثيرين من أعضاء مجلس الشيوخ والكونغرس من أمثال تشاك شومر، الذي قاد الأعضاء الديموقراطيين ضد المملكة العربية السعودية، وطموحه أن يتبوأ زعامة الغالبية الديموقراطية في حال فوز الديموقراطيين بهذه الغالبية في الانتخابات المقبلة لمجلس الشيوخ خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر الجاري.

لقد أظهر التشريع المذكور أن السياسيين الأميركيين آثروا المصالح السياسية الشخصية الضيقة والقصيرة الأجل على المصلحة القومية الأميركية. وأقرَّ هذا التشريع في مجلسي الشيوخ والنواب وسط دوَّامة سنة انتخابية وعلى عجل من غير أي مناقشة جدِّية لتبعاته. وحول هذا الموضوع كتبت جريدة «فايننشال تايمز» اللندنية تعليقاً ينمُّ عن سوء تقدير مذهل حول الموضوع. فالجدير بالذكر أن كثيرين من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الذين صوتوا على قانون «جستا» كانوا قد صوتوا سابقاً تأييداً لحرب العراق في عام 2003، وهي حرب شكَّلت كارثة موصوفة على المصلحة القومية الأميركية.

إن جميع الوكالات الأميركية المختصَّة التي قامت بالتحقيق في هجمات 11 أيلول/سبتمبر عام 2001 لم تعثر على أي دليل يثبت تورط الحكومة السعودية في توجيه أو تمويل تلك الهجمات، وبقيت الدعاوى القضائية المرفوعة بسبب هجمات 11 أيلول/سبتمبر جارية منذ 15 عاماً من غير نتيجة. واليوم أعلنت شركة المحاماة جايمس كرايندر التي مثَّلت مئات العائلات التي فقدت أحباءها في الهجمات المذكورة، أنها سوف تتقدم بأوراق جديدة تضمها الى تلك الدعاوى في محاولة لإضافة اسم المملكة السعودية كمتهم في تلك الدعاوى القضائىة المزمنة. وقد بذل الرئيس أوباما، ووزارة الخارجية، ووزارة المالية، ووزارة الدفاع، ووكالة المخابرات المركزية، أقصى الجهود لمنع التصويت على قانون «جستا» من غير جدوى. ويلام الرئيس أوباما أنه انتظر طويلاً قبل إطلاق حملة اتصالات شاملة، قبل سنة من الآن، عندما بدأ الحراك التشريعي في هذا الاتجاه يأخذ زخماً متزايداً.

كذلك أخطأت الشركات الأميركية التي لها مصالح كبرى في المملكة السعودية بانتظارها حتى اللحظة الأخيرة للتحرك بدل بذل الجهود اللازمة قبل سنة من الآن. والمعروف أن «لوبي» الشركات الأميركية هو من أقوى جماعات الضغط في الولايات المتحدة، وقد ظهرت قوة نفوذهم الفاعلة هذه في دعمهم لجهود الصين من أجل الانضمام الى «منظمة التجارة العالمية»، حيث كان كثيرون من أعضاء مجلس الشيوخ ضد انضمامها الى تلك المنظمة الدولية. غير أن الصين نجحت في تجنيد جهود الشركات الأميركية لدحر تدابير منع انضمامها.

ومن المرجح أن يجري تعديل قانون «جستا» بحيث يبقى بلا أنياب. وأن يحصل الرئيس أوباما على ملحق من الكونغرس يمنع إقامة الدعاوى القضائية ضد المملكة العربية السعودية، بموجب المادة المتعلقة بالمصلحة القومية الأميركية. وظهرت أخيراً ملامح تشير الى أن 28 عضواً في مجلس الشيوخ قد بدأوا يغيِّرون رأيهم على أساس أن ذلك القانون يضرُّ بالسياسة الخارجية الأميركية وبالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة.

وشدَّد الرئيس أوباما على أن قانون «جستا» من شأنه أن يفتح الباب لردود فعل من شأنها تعريض الجنود والموظفين الأميركيين العاملين في الخارج الى مخاطر جسيمة، أو تقام دعاوى مضادة، أو تتغير القوانين تبعاً لذلك. وهذا من شأنه أن يفتح المجال واسعاً لطوفان من الدعاوى القضائية حول العالم. والخوف الأكبر أن يؤدي تطبيق القوانين الأميركية خارج الولايات المتحدة الى دفع بلدان كثيرة الى البحث في أماكن أخرى عن عملة احتياطية تحل محل الدولار.

وربما جرى تعديل القانون الأميركي المذكور للتخفيف منه بالضغط على الكونغرس من قبل المؤسسة العسكرية ووكالات الأمن القومي، لأن تلك المؤسسات والوكالات هي الوحيدة التي يخشاها الكونغرس ويراعيها. فليست هناك مؤسسة في الولايات المتحدة تحظى بإعجاب واحترام الشعب الأميركي مثل المؤسسة العسكرية، حيث نسبة 75٪ من الشعب الأميركي قاطبة تثق بالمؤسسة العسكرية وتؤيدها. وهناك في معظم الولايات قواعد عسكرية على تماس مع مواطني تلك الولايات. وتعرف المؤسسة العسكرية أن المملكة السعودية هي حاجة حيوية للمصالح الأمنية والاقتصادية للولايات المتحدة. فالسعودية هي ضمن الدول السبع الأهم للولايات المتحدة بعد كندا، والمكسيك، وألمانيا، وبريطانيا، واليابان، والصين. وتشير التقديرات الى أن هناك مليونين من الأميركيين يحتفظون بوظائفهم بسبب العلاقة مع الأسواق السعودية التي تشكِّل عنصراً حيوياً جداً لصناعة السلاح الأميركية وللشركات المتعددة الجنسيات. 

وأخيراً، فإن المملكة السعودية هي البلد الوحيد في العالم القادر على تحقيق التوازن في أسواق النفط العالمية، بما تملكه من احتياطي نفطي هائل ومن طاقة انتاجية جاهزة. وهذا ما يبقي أسعار النفط معقولة لفائدة الاقتصاد والازدهار العالميين.

وعلى الرغم من ذلك، فإنه يتعين على المملكة السعودية القيام بحملات قادرة على الوصول الى الشعب الأميركي مباشرة، لأن أولئك الشيوخ والنواب حسَّاسون تجاه ناخبيهم المحليين. وهي بحاجة أيضاً الى إقامة روابط قويَّة مع مراكز البحوث ووسائل إعلامها، ومع الأكاديميين، بالإضافة الى الجماعات السود والأسبان. وأخيراً وليس آخراً، عليها أن تقيم صلات مع منظمات حقوق الإنسان التي لها كثير من النفوذ في مجلس الشيوخ. والشخص المؤهل لقيادة هذه الحملة هو الأمير محمد بن سلمان، لأن كثيرين من الأميركيين الذين التقى معهم في وسائل الإعلام، وفي المؤسسة العسكرية، وفي أوساط الشركات ورجال الأعمال والجامعات، يشعرون بأنه يتمتع بالشخصية والهيبة الكفيلين بإشاعة صورة إيجابية عن المملكة السعودية.

لقد أحدثت هجمات أيلول/سبتمبر 2001 فراغاً وأجواء سلبية في العلاقات الأميركية ـ السعودية، لم تتم معالجته ولم يجرِ تصحيحه. وقد لفت الى ذلك زبيغنيو بريزنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس الأسبق جيمي كارتر، حيث أشار الى أن جماعات كثيرة في الولايات المتحدة كانت تعمل على زعزعة العلاقة الاستراتيجية بين المملكة السعودية والولايات المتحدة. وكان من الأجدر أن تقوم الاستراتيجية السعودية، بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، على الوصول الى الشعب الأميركي للتأثير على الكونغرس بدل الاكتفاء بعلاقات جيدة مع البيت الأبيض. فالمشكلة السعودية هي مع الكونغرس، ولا سبيل الى معالجتها إلاَّ بالاتصال مع الشعب الأميركي والوصول اليه في الولايات الخمسين، وليس بالتركيز على العاصمة واشنطن فقط.

إن عملية تثقيف الشعب الأميركي وتوعيته حول السعودية، لمحو المغالطات والأكاذيب التي جرى بثها ونشرها منذ 11 أيلول/سبتمبر، تحتاج الى عدة سنوات من العمل المركَّز والدؤوب، بدءاً من استراتيجية قوامها الاتصالات الممتازة من قبل رجال سعوديين ونساء سعوديات درسوا في الغرب ويستطيعون التعبير عن أنفسهم أمام الأميركيين بطريقة أفعل من رجال كواليس «اللوبيات» الذين لا يعرفون شيئاً عن المملكة السعودية.

العلاقة الاميركية- السعودية علاقة متكاملة اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، والطرفان يحتاجان بعضهما البعض، ثم ان السعودية هي محجة المسلمين في العالم، وخسارة أميركا للسعودية تعني خسارتها المسلمين.


هذا المقال تنشره "ايلاف" بالاتفاق مع تقرير "الديبلوماسي" الذي يصدره من لندن الصحافي اللبناني ريمون عطاالله