سألت إيلاف قارئها: "هل تؤمن بنزاهة العمليات الديمقراطية في الدول العربية؟" فأجاب بأغلبية مطلقة: كلا. إنها الردة الفعلية على ربيع عربي ديمقراطي، خرب البلاد وشرد العباد، أو أنجب أولادًا عاقين، لا يؤمنون بالديمقراطية.

بعدما اندلعت شرارة الثورات العربية الحديثة مع "ثورة الياسمين" في تونس، وبدأت تلوح بشائر الربيع العربي بعد خريف ديكتاتوري طال أمده، أبشرت شريحة واسعة من العرب خيرًا في تحولات نحو الديمقراطية، بعيدًا عن شعارات طنانة، مثل "ضرورات المرحلة" وحجة الحرب مع إسرائيل لتأجيل الديمقراطية ولكم الأفواه. ولكن! جرت الرياح بما لم تشته سفن الشباب العربي الطامح إلى مجتمعات سياسية تعددية، وإلى حرية رأي وتنمية اجتماعية واقتصادية مستدامة، قائمة على إلغاء فكرة التفرد بالحكم، والاقتصاد "الحربي"، وحالة الطوارئ التي جعلت من الموقت دائمًا، ومن المتحول ثابتًا.

حافة الهاوية

سألت "إيلاف" قارئها، في استفتائها الأسبوعي: "هل تؤمن بنزاهة العمليات الديمقراطية في الدول العربية؟"... أتى الجواب بالنفي جامعًا، إذ وصلت نسبة اليائسين من نزاهة العمليات الديمقراطية في الوطن العربي أكثر من 96 في المئة، مقابل نسبة ضئيلة (4 في المئة تقريبًا) ما زالت شعلة الثورة فيها متقدة.

مؤلم فعلًا أن يصل اليأس بالشعب العربي إلى حافة الهاوية. لكن، قبل التطرق إلى ما يمكن أن يبرر مثل هذا التفاوت في الاستجابة للسؤال المطروح، لا بد من الاعتراف فعليًا بأزمة حادة تمر بها الديمقراطية في العالم اليوم. فدعاة الديمقراطية مأزومون بسبب هبوط حاد في نسبة الجاذبية الفكرية والشعبية لشعارات يرفعونها منذ عقود: دولة القانون؛ تداول السلطة؛ المساواة الكاملة في المواطنة؛ حقوق الإنسان؛ خصوصًا مع صعود كبير لشعور قومي مقلق، ولنزعات شعبوية. 

والمقلق أن هذا الشعور وهذه النزعات تسود اليوم في مجتمعات "متقدمة" - فرضيًا - قائمة سياسيًا على تعددية حزبية، لطالما تغنت بإرثها الديمقراطي، ولطالما فاخرت بين الأمم بأنها تصدر أسس الديمقراطية إلى عالم "ثالث" تحكمه الديكتاتوريات.

يقول عمرو حمزاوي، الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط: "ليس من قبيل المصادفة الكونية أو المؤامرة الدولية على الديمقراطية أن يتنامى بإطراد الوزن الانتخابي والنفوذ السياسي لقوى أقصى اليمين وأقصى اليسار في البلدان الأوروبية، وأن يحدث ذلك من جهة في سياق عزوف شعبي واسع عن نخب الوسط الحاكمة (يمين الوسط ويسار الوسط) وعن وعود الرخاء والحرية والأمن التي اعتادت أن تقدمها ومن جهة أخرى في سياق شكوك عامة متزايدة بشأن نزاهة هذه النخب ومدى ابتعاد عناصرها عن إساءة استغلال المنصب العام، وقابليتها للإنصات لمخاوف ومطالب الناس، وقدرتها على تخصيص موارد المجتمعات بحيادية تعتبر بصالح الأغلبية وتلتزم بقيم العدل والمساواة وتقاوم هيمنة الفئات المجتمعية صاحبة مواقع الأفضلية الاقتصادية والبيروقراطيات النافذة".

ردة عن الديمقراطية

إن كانت هذه حال الغرب، فكيف تكون حال العرب؟ صار "حروب الردة" على الربيع العربي جلية، فالمجتمعات السياسية العربية اعتادت "الأمر والنهي"، وما تحملت "المشورة والتشارك". ويشكل الرفض العربي الجامع لمبدأ سلطة الشعب والحق في مراقبة المسؤولين ومحاسبتهم، حتى في وجود مؤسسات برلمانية صادرة عن انتخابات شكلية، قاعدة واسعة النطاق لحياة سياسية عربية ملفقة. 

ومن هذا المنطلق، لا بد من الاعتراف بأن الحياة السياسة العربية في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين تبقى أسيرة أهواء الحكام ومن يدور في فلكهم ومن ينفذ أمرهم بالحديد والنار، ويبقى أي كلام عن تنافس حقيقي ديمقراطي نزيه على سدة الحكم في البلدان العربية مجرد أضغاث أحلام. أليس هذا ما تقوله أغلبية "صارخة" عبرت عن يأسها في استجابتها لإستفتاء "إيلاف".

سؤال ثقة العرب في النخب سؤال مشروع، خصوصًا في بلدان عربية لا تستطيع الفصل بين الدين والدولة، ولا تحتمل الكلام عن ليبرالية ولو محدودة. يقول هزاع المجالي: "إن الدعوى إلى فصل الدين عن الدولة في العالم الإسلامي بعد انهيار الخلافة العثمانية لم يكن وليد ثورات ورفض وتمرد للمجتمعات الاسلامية ضد الحكم القائم على أساس ديني، وإنما كان لتوظيف أصحاب الحكم أنفسهم للدين كوسيلة لشرعية وجودهم في الحكم وللهيمنة والاستبداد". وبالتالي، ما كانت الدعوى العربي، متى حصلت، إلى فصل الدين عن السياسة إلا مبررًا للمزيد من الأوتوقراطية، لا وسيلة لتدعيم النزاهة الديمقراطية في مجتمعات تاقت منذ ولادتها إلى أن تكون مجتمعًا مدنيًا، ما لقيصر فيه لقيصر، وما لله فيه... لله. 

إلا أن مآلات الربيع العربي بعد ثمانية أعوام من "ثورة الياسمين" رسمت صورة مخيفة لديمقراطية حاولت أن تكون نزيهة، فأنجبت إلى الحكم إسلاميون لا يطيقون ذكر الديمقراطية، فكان الأمر على شاكلة "أولادكم أعداء لكم". فسعى التونسيون والليبيون واليمنيون والمصريون والسوريون إلى مجتمع يخرجونه من عباءة الديكتاتوريات، فأدخلهم سعيهم الديمقراطي في أسلمة المجتمع، وحروب الطوائف، والتنازع على تفسير أحكام الشريعة الإسلامية، وعلى دسترتها. 

دولة العصمة!

يقول أسعد عبد الرحمن أن الغرب اتخذ مثال البيعة الحرة، أي الانتخاب المدني، أداةً للحكم، كما شرعها النبي محمد الذي لم يدع لأية سلطة دينية بتاتًا، "كما يدعي البعض في حكمهم بعض البلدان المسلمة، وكما تدعي أيضًا القاعدة وداعش ومن لف لفهما من حركات الإسلام السياسي". يسأل: "لماذا، نحن العرب المسلمين، لا نقلد دولة الرسول، المدنية السياسية، كما قلدها الغرب وبلغ أوج النهضة المدنية التي كان يمثلها المسلمون منذ ألف سنة؟ لقد أخذ الغرب ديمقراطيته من نظام البيعة المدني في الإسلام الذي حرم الكهنوت تحريمًا مطلقًا. وبالرغم من هذا التحريم المطلق، ما زال البعض منا يبغي إقامة دولة دينية إسلامية يسيطر عليها دكتاتور يدعي العصمة من الخطأ!"

إنه ديكتاتور "الاستفتاء الشعبي" ونتيجته المعهودة: 99 في المئة من الشعب مؤيدة لبقائه إلى الأبد على عرش السلطة المطلقة. طال أمد هذه النسبة، وكانت أحيانًا 99.99 في المئة، فدسّت الشكوك في قلوب العرب في كل يطلب سلطة، حتى لو طلبتها نخبة تصر على الموت على قارعة طريق الليبرالية. بقي هذا الشك مكينًا في المجتمعات العربية حتى في تلك التي شهدت سقوط الأنظمة المستبدة (بن علي في تونس والقذافي في ليبيا وعلي صالح في اليمن) وتهافت أخرى (الأسد في سورية) في أعقاب ثورات الربيع، وفوصل التشكيك إلى أحزاب تجادل بالديمقراطية والليبرالية، ما أدى إلى وأد نزاهة الانتخابات حتى قبل حصولها، وقبل فتح صنادقها، ما أدى إلى ارتباك الشعور الشعبي العربي، ورفض كل شيء، حتى النزاهة نفسها. ولكم في ماحصل في الانتخابات العراقية الأخيرة خير مثال.

بعد هذا كله، لا بد من التوجه إلى تلك النسبة الضئيلة التي ما زالت تؤمن بنزاهة العملية الديمقراطية في العالم العربي: "ألا بينتم حجتكم على هذا التفاؤل المفرط"؟

لكتابة هذا التقرير، تمت الاستعانة بالمصادر الآتية:
http://carnegie-mec.org/2016/06/28/ar-pub-64002
https://bit.ly/2m0UYEQ
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=90125