في اليوم التالي للهجوم الذي استهدف أسقفا بالطعن في كنيسة بالعاصمة الأسترالية سيدني، كان خبير الطب الشرعي يمسح بصمات الأصابع على شاهد المهد عند مدخل الكنيسة.

وكانت هناك سيارة صغيرة محطمة النوافذ تقف خارج الكنيسة (كنيسة المسيح الراعي الصالح)، وتذكّر بالحدث المروع الذي وقع في ضاحية سيدني الغربية ليلة الاثنين، وأعمال العنف العشوائية التي تلت ذلك.

في حوالي الساعة 19:00 من تلك الليلة، خرج صبي يبلغ من العمر 16 عاما من بين الحاضرين في الكنيسة المسيحية الآشورية الأرثوذكسية وشن هجوماً مسعوراً على الأسقف الذي كان يلقي موعظة حينها.

ويُزعم أنه صرخ باللغة العربية قائلا "باسم الرسول"، قبل أن يطعن الأسقف مار ماري عيمانويل، ويهاجم كاهنا آخر وبعض رواد الكنيسة الذين حاولوا التدخل.

التقتطت الكاميرات كل تلك الأحداث وبثت مباشرة عبر الإنترنت، وانتشرت الأخبار بسرعة في المجتمعات الآشورية والمارونية والكاثوليكية والقبطية المسيحية.

وفور مشاهدة ماحدث، نزل المئات من أتباع الكنيسة واشتبكوا مع الشرطة التي وصلت إلى مكان الحادث في ذلك الوقت واعتقلت المراهق، وطالبوا بتسليم المراهق وأصابوا الضباط الذين كانوا يتعاملون مع الضحايا.

كنيسة المسيح الراعي الصالح
Reuters

وقد هز هجوم ليلة الاثنين والفوضى التي أعقبته مدينة سيدني، المدينة التي تعاني من اضطرابات منذ فترة.

إذ أن المدينة الأسترالية لا تزال في صدمة بالفعل على حادث الطعن الجماعي الذي وقع قبل يومين في مركز للتسوق بالقرب من شاطئ بوندي، حيث قام رجل بطعن ستة أشخاص حتى الموت، خمسه منهم من النساء، وأصاب عشرات آخرين بجروح.

وبينما تعاني البلاد من آثار الهجومين، سارعت السلطات إلى الإشارة إلى عدم وجود صلة بين الحادثين.

ويبدو أن هجوم مركز ويستفيلد بوندي جانكشن للتسوق كان عملاً من أعمال العنف التي استهدفت النساء من قبل رجل لديه تاريخ من مشاكل الصحة العقلية، في حين أن الهجوم على الكنيسة كان بدوافع دينية، وفقا للسلطات. وقالت شرطة ولاية نيو ساوث ويلز إن الحادث يعدّ "عملا إرهابيا"، كما أن الحادثين وقعا أيضا في مكانين مختلفين من مدينة سيدني.

تقع كنيسة المسيح الراعي الصالح في الضواحي الغربية لسيدني: موطن معظم مجتمعات المهاجرين الوافدين حديثاً إلى المدينة، وهي مكان تنصهر فيه الثقافات والمجتمعات العرقية والأديان، حيث ولد أكثر من نصف السكان خارج أستراليا.

وفي فاولر، منطقة المجلس المحلي، يعكس السكان تلك التعددية الثقافية، بدءاً من فيتنام والصين وأجزاء من الشرق الأوسط. وهي أيضا واحدة من أكثر المناطق الدينية شهرة في سيدني، حيث أن 25 في المئة من السكان يتبعون الكاثوليكية، و19 في المئة بوذيون، و7.5 في المئة مسلمون، وفقا لأحدث إحصاء سكاني أسترالي.

كنيسة المسيح الراعي الصالح
Reuters
تقع الكنيسة في غرب سيدني، وهي منطقة تضم مجموعة واسعة من الأديان والأعراق المختلفة

وتمثل ضاحية واكلي، قلب المجتمع المسيحي الآشوري في المدينة. ويعيش في أستراليا ما يزيد عن 40.000 آشوري، غالبيتهم يعيشون في واكلي.

ومعظم الآشوريين من المسيحيين، وهم السكان الأصليون لما كان يُعرف تاريخيا ببلاد ما بين النهرين والعراق الحديث وأجزاء من إيران وتركيا وسوريا.

وبعد تعرضهم للاضطهاد بسبب عقيدتهم، فر الكثيرون من أوطانهم على مر السنين، هربا من الإبادة الجماعية والحرب للوصول إلى بلدان آمنة مثل أستراليا.

لذا فإن الهجوم على الكنيسة في قلب الطائفة الآشورية يوم الاثنين أثار مخاوف كبيرة.

وكان زعيم الكنيسة الأرثوذكسية الذي تعرض للهجوم معروفا على نطاق واسع في المجتمع، ولديه عدد كبير من المتابعين على الإنترنت، لكنه كان أيضا مثيرا للانقسام والجدل بسبب آرائه المحافظة للغاية خاصة خلال وباء كورونا، حين عارض عمليات الإغلاق واللقاحات، وتبنى آراء تحريضية ضد زواج المثليين والعقيدة الإسلامية.

ووصفه أحد أتباعه لبي بي سي بأنه رجل صريح. وقال باسم شمعون: "إنه يقول الحقيقة انطلاقا من إيمانه وعلمه".

مضيفا: "لكننا في أستراليا - لدينا حرية التعبير. نحن في بلد يجب أن نشعر فيه بالأمان عند التعبير عن آرائنا".

 باسم شمعون
Reuters
يقول باسم شمعون، وهو عراقي الأصل، إن الهجوم كان صادما للعديد من اللاجئين والمهاجرين الذين يعيشون في غرب سيدني.

يقول شمعون، وهو في الأصل من بغداد: "ما رآه الناس يوم الاثنين جلب لهم الكثير من الذكريات المؤلمة والصدمات، خاصة بالنسبة للاجئين والمهاجرين والوافدين الجدد. لم نتوقع أن يحدث مثل هذا الشيء هنا".

وفي الكنيسة مع زوجها وابنتها، قالت ميرنا تالسكي لبي بي سي إنها جاءت لتقديم الدعم والتعبير عن التعاطف مع الأسقف.

وفي اللحظة التي سمعت فيها عن أعمال العنف التي وقعت ليلة الاثنين، تواصلت مع جميع معارفها للاطمئنان عليهم، وتضيف لبي بي سي أن والدتها قررت في اللحظة الأخيرة عدم الذهاب إلى الكنيسة في ذلك اليوم لأنها كانت متعبة.

تقول ميرنا: "ابنتي تبلغ من العمر تسعة أشهر. لذا، ففي عطلة نهاية الأسبوع، أفكر دائما بعدم الذهاب إلى المتاجر. والآن أصبح الأمر محيّرا للغاية، هل أتوقف أيضا عن المجيء إلى الكنيسة؟".

ميرنا تاليسكي وعائلتها
Reuters
جاءت ميرنا تاليسكي إلى الكنيسة مع عائلتها مؤازرة للأسقف المصاب

وتحدث الأسقف عيمانويل والذي أصيب أيضا في الهجوم، قائلاً إنه يغفر "لمن ارتكب هذا الفعل".

وقال في رسالة صوتية إنه يتعافى بسرعة ودعا المجتمع إلى التزام الهدوء.

لكن في واكلي ومنطقة غرب سيدني، لا تزال الأجواء متوترة للغاية.

وعلى الرغم من تعدد المجتمعات العرقية المختلفة، إلا أنهم يعيشون في أغلب الأحيان في وئام جنبا إلى جنب - وهي حقيقة أشاد بها القادة المحليون. لكن أعمال العنف التي وقعت يوم الاثنين حطمت هذا السلام.

وتحدث زعيم الجالية الإسلامية، جمال خير، من جمعية المسلمين اللبنانيين، لبي بي سي حول هذه المخاوف.

وفي حديث مع والد الصبي المراهق خلال الساعات التي تلت الهجوم، بدا الرجل مصاباً بالصدمة والذهول من عنف ابنه، وقال إنه لا يملك أدنى فكرة عن أن ابنه أصبح متطرفا إلى هذا الحد، مؤكداً أنه لم تكن توجد أي علامات تشير إلى ذلك على الإطلاق. وقال أصدقاء المهاجم في المدرسة نفس الشيء لوسائل الإعلام المحلية.

وقال خير لصحيفة سيدني مورنينغ هيرالد في حديثه عن والد الصبي: "لم يكن هناك أي شيء يشير إلى أن ابنه قد بلغ من التطرف إلى هذا الحد"، مضيفاً أن الرجل لجأ إلى مسجد محلي في تلك الليلة خوفا من تعرضه لهجوم في منزل عائلتة.

وقد أُبلغ عن موجة من التهديدات في المساجد والأماكن الخاصة بالمسلمين منذ ذلك الحين.

وأفاد مسؤولون في أكبر مسجد في سيدني، مسجد لاكيمبا، الذي يقع على بعد نصف ساعة بالسيارة من الكنيسة الآشورية في واكلي، أنه تعرض للتهديد بإلقاء قنابل حارقة.

وفي الوقت نفسه، قالت مجموعة سجل الإسلاموفوبيا في أستراليا المجتمعية، إنها سجلت 46 تقريرا عن حوادث منذ يوم السبت - وهو "ارتفاع كبير". وكانت حوادث الكراهية هذه مدفوعة أيضا بالمعلومات المضللة حول هجوم مركز تسوق بوندي جانكشن، حيث وصف كارهو الإسلام الهجوم في البداية بأنه عنف إسلامي، قبل أن تكشف السلطات عن التفاصيل.

الشرطة خارج الكنيسة
EPA
كان هناك تواجد كبير للشرطة خارج الكنيسة في أعقاب هجوم يوم الاثنين

وقال خير لبي بي سي: "الأعصاب متوترة للغاية، عندما وقع هجوم بوندي، كنا نعيش في خوف من أن يكون منفذ الهجوم مسلما".

هناك الكثير من المخاوف الآن خصوصا بعد توصيف الشرطة لأحداث يوم الاثنين على أنها عمل إرهابي، إذ يمكن أن يؤجج ذلك الكراهية ضد المجتمع المسلم.

واضاف: "إن ما يحدث يجعل المجتمع غير صحي. هذه الأحداث تفرقنا، علينا أن نبقى متحدين".

كما يطلق البرلمانيون المحليون والقادة في المنطقة دعوات مماثلة.

وقالت داي لي، النائبة الفيدرالية عن المنطقة، وهي من أصول فيتنامية: "إنني أدرك تماما احتمال تصاعد التوترات داخل مجتمعنا المتنوع والمتعدد الأديان".

وأضافت أنه من المهم أن يثق الناس في الشرطة وفي التحقيق الذي تجريه وأن تكون ردود أفعالهم هادئة ومدروسة.

وأردفت: "أحث الجميع في مجتمعنا على البقاء مسالمين، من الأهمية بمكان ألا نسمح للخوف أو الغضب بتقسيمنا".

ودعا رئيس وزراء الولاية، كريس مينز، يوم الإثنين أيضا، إلى اجتماع طارئ للزعماء الدينيين من الطوائف الإسلامية والمسيحية وغيرهم لإظهار الوحدة.

وقال مينز إن جميع القادة "أيدوا ودعموا الإدانة الجماعية للعنف بأي شكل من الأشكال، ودعوا المجتمع إلى اتباع تعليمات الاستجابة الأولى وتعليمات الشرطة، ودعوا إلى أن يلتزم المجتمع الهدوء".