خالد الحروب

من أهم ما يميز بريطانيا عن البلدان الأصلية لمعظم أفراد الجالية المسلمة فيها، هو وجود نظام قضائي شفاف ونزيه. في هذا البلد يراقب المرء مسألة فصل السلطات وكيف تشتغل عملياً على الأرض, وكيف تتربع السلطة القضائية على عرش السلطات جميعها: التنفيذية والتشريعية ... والإعلامية. في هذا البلد تقاليد قضاء عريقة تراكمت على مدار قرون وصارت إحدى أهم التجارب الإنسانية المعاصرة في هذا المجال. طبعاً هناك أخطاء قضائية ارتكبت هنا وهناك, وهناك قضاة اتهموا بعدم النزاهة, وهناك محاكمات حامت حولها شبهات, لكن في المجمل العام تظل هناك تجربة قانونية وقضائية متميزة, أهم ما فيها أن السلطة التنفيذية لا تجرؤ على محاولة التحكم بالقضاء أو التأثير على قراراته.
متابعة تفاصيل القضايا وإجراءات المحاكمات وتحقق المبدأ المقدس من أن المتهم بريء حتى يثبت العكس، والدور الرئيسي لهيئة الدفاع واستقلالها، والقوة التي تتمتع بها إزاء ما يتمتع به الادعاء العام... كل ذلك دروس يومية برسم الاستفادة في معنى ومغزى دولة القانون. سيقول قائل هنا: أي دولة قانون وبريطانيا انخرطت وتنخرط في سياسة خارجية تابعة للولايات المتحدة أقل ما يُقال عنها إنها خارجة على القانون الدولي, خاصة في غزو العراق واحتلاله. وهذه النقطة صحيحة من جهة لكنها تتعلق بالسلطة التنفيذية أكثر من تعلقها بالسلطة القضائية المعنية بالفضاء الداخلي للبلد, وهو ما تناقشه هذه السطور.
تنطبق إجراءات القضاء البريطاني ونزاهته على المسلمين المقيمين في بريطانيا أسوة بنظرائهم. ومن القضايا المهمة خلال الثلاث سنوات الماضية والتي تعلقت بمسلمين يمكن الإشارة إلى اثنتين. الأولى التهم التي سِيقت, وبتأليب من اللوبي اليهودي في بريطانيا, ضد الصندوق الفلسطيني للإغاثة والتنمية quot;إنتربالquot; بكونه منظمة تابعة لحركة quot;حماسquot; وتجمع التبرعات من بريطانيا وترسلها إلى فلسطين quot;للمساعدة في تنفيذ عمليات إرهابية ضد إسرائيلquot;. في تلك المحاكمة والتي استمرت عدة شهور أيضاً تمكن محامو الدفاع من دحض كل التهم وأصدرت المحكمة قرارها بتبرئة quot;إنتربالquot; الذي قام في المقابل برفع قضية ضد هيئة الجالية اليهودية بتهمة القذف والتشهير وقد ربحها أمام القضاء البريطاني أيضاً. أما القضية الثانية فكانت بشأن ثلاثة مسلمين باكستانيين, رجلين وامرأة, اتهموا بأنهم quot;حجبوا معلومات مهمة عن الشرطة كان من شأنها أن توقف عملاً إرهابياًquot;. وكان ذلك متعلقاً باثنين من أقارب هؤلاء سافروا إلى فلسطين وحاولوا تفجير مقهى ليلي في تل أبيب. استمرت تلك المحاكمة أكثر من سنة تقريباً, ومرة أخرى تمكن المحامون من إقناع هيئة المحلفين ببراءة المتهمين وصدر الحكم فعلاً بإخلاء سبيلهم. وهناك قضايا لا حصر لها تتعلق باللاجئين السياسيين الذين انتزعوا حق الإقامة في بريطانيا, وكذلك حق الإنفاق عليهم من قبل الحكومة, ويعيشون هناك بأمن لا يحلمون بعشر معشاره في بلدانهم الأصلية أو حتى في البلدان العربية أو الإسلامية المجاورة لبلدانهم.
مناسبة هذا الكلام هي صدور أحكام بالسجن مدى الحياة على خمسة شبان مسلمين متطرفين على علاقة ما بـquot;القاعدةquot;، وقد أدينوا بالتآمر لتنفيذ تفجيرات إرهابية في أماكن متفرقة من بريطانيا. وبحسب ما تم الكشف عنه فإن ما كان يخطط له هؤلاء هو استهداف مراكز تسوق مكتظة في مقاطعة quot;كنتquot;, ونوادٍ مزدحمة في لندن وغيرها. ولحسن الحظ، أحبطت تلك المخططات وثبت أن أجهزة الأمن البريطانية كانت تراقبهم عن كثب واعتقلتهم قبل الشروع في تنفيذ مخططاتهم. المهم هنا هو أن الأحكام التي صدرت بحق هؤلاء هي خلاصة محاكمة طويلة ومعقدة وتعتبر أطول محاكمة حول قضية إرهابية في تاريخ بريطانيا. هيئة المحلفين أدانت المتهمين وذلك من خلال تراكم الأدلة القوية ضدهم.
لكن بعض الجوانب الملفتة للانتباه بعد صدور الأحكام وما تلاها من تغطية إعلامية واسعة هو ردود فعل المتحدثين باسم بعض الجمعيات الإسلامية في بريطانيا من تشكيك في نزاهة القضاء البريطاني, وخاصة رأي هيئة المحلفين. والغريب هنا أن التشكيك يصدر عن جهات تواجدت على الساحة البريطانية ونشطت محتمية بالنظام القانوني البريطاني الذي ينصفها أمام الحكومة أو أمام الأجهزة الأمنية على الدوام. وهي في غالبها تتمتع بقدر واسع من حرية العمل والنشاط. والأهم من ذلك أيضاً هو مسألة الكيل بمكيالين وفقدان الصدقية عند التشكيك في قدرة ونزاهة وإجراءات القضاء البريطاني عندما تصدر أحكامه لتدين بعض العناصر المتطرفة من الجالية المسلمة, بينما تتم الإشادة بنزاهة ذلك القضاء عندما تبرئ أحكامه متهمين مسلمين في قضايا أخرى. وكثير من التشكيك ورد الفعل المنفعل يصدر عن عقلية دفاعية غير موضوعية في تناول الأمور.
لقد كان حرياً بكثير من الأصوات التي تعالت نقداً للأحكام الصادرة على المتهمين أن توجه الشكر والامتنان للقضاء ولقوات الشرطة البريطانية التي اعتقلت المتهمين قبل أن ينجحوا في تنفيذ مخططهم الدموي. لنتخيل النتائج المأساوية التي كانت ستلي قتل مئات المدنيين في مراكز التسوق, وماذا كانت ستجلب على المسلمين في بريطانيا وأوروبا وباقي العالم! أمامنا تجارب غنية بنتائجها من سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن, إلى مارس 2004 في مدريد إلى يوليو 2005 في لندن... تجارب أشارت إلى أن الانعكاسات والثمن الباهظ الذي دفعه العرب والمسلمون بسبب غباء وإرهاب حفنة من متطرفيهم قد جاوز حتى الخيال. كل ذلك بالكاد يزحزح قناعات بعض المتحدثين المسلمين في الغرب, والمتوترين على الدوام دفاعاً عن quot;براءةquot; متخيلة ومتوهمة في جانبنا, لكن القناعة بوجودها راسخة ودائمة... وخادعة أيضاً.