نيويورك - راغدة درغام

حدثت تطورات جديدة من نوعها هذا الاسبوع تستحق التنبه الى معانيها واتخاذ قرارات واقعية وعملية للبناء عليها بجدية وعزم كي لا تضمحل أهميتها ويتراجع الحدث الى خانة كان. عدوى التغيير الذي انطلق من الانتخابات الرئاسية الاميركية ترك تشوقاً الى الجديد واستعداداً للتحاور والتفاهم. وانعقاد الاجتماع الرفيع المستوى لقادة الدول في الجمعية العامة للأمم المتحدة في laquo;حوار الأديانraquo; وبث ثقافة السلام التي جاءت بمبادرة سعودية رافقه اندفاع غير معهود لإحداث تغييرات في النمط التقليدي لممارسات القيادة السعودية. وهذا بدوره اسفر عن تقبل وتقدير دوليين واقليميين، مما فتح نافذة على مؤشرات سيكون لها تأثيرها في مستقبل منطقة الشرق الأوسط والعلاقات الدولية معها. تزامن هذان الحدثان مع انعقاد القمة المالية لعشرين دولة رئيسية في واشنطن يوم غد السبت ليشكل نواة تفكير استراتيجي، يتطلب بالتأكيد القراءة الدقيقة لمعاني الأحداث والتطورات والرسائل. انما بالقدر ذاته من الأهمية، من الضروري لأصحاب المبادرات ان يسوقوا مبادراتهم بإقبال وتجدد وان يبينوا بكل وضوح وتماسك اعتزامهم أخذ زمام مبادراتهم الى آفاق جديدة، إذ لن يكون ابداً في صالح هذه المبادرات ان تتبنى وتيرة بطيئة. من الضروري ايضاً للذين التقطوا الفرصة التي أتاحتها المبادرة السعودية الى اجتماع laquo;حوار الأديانraquo; على أعلى المستويات السياسية، كقيادات الدول، ان يبرهنوا على صدقهم في البناء على الفرص التي أتيحت.
فلن يكفي اعلان الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريز من منصة الجمعية العامة قبول اسرائيل للمبادرة العربية للسلام، على رغم أهمية هذا الاعلان الذي أتى بعد 6 سنوات من تهرب اسرائيل منه ومحاولاتها التملص من استحقاقات مبادرة السلام السعودية التي تبنتها القمة العربية بالإجماع في مؤتمر بيروت عام 2002. الامتحان ليس في الاعلان، وانما في الاجراءات للتحرك نحو العدالة والتعايش على رغم الاصرار على الانفتاح والذي حملته الرسالة السعودية هذا الاسبوع الى مبنى الأمم المتحدة، ولم يقتصر على معالجة استعصاء حل نزاع الشرق الأوسط، بل تعداه الى معالجة جذرية لدور الدين في نزاعات عدة سابقة تستحق التوقف عندها ملياً عند رسم السياسات الدولية للتصدي للتعصب والارهاب والاستخدام السيئ للأديان باستراتيجيات جماعية.
وكي تتمكن القيادة السعودية من تحقيق مسيرتها نحو الاصلاحات وانشاء علاقة جديدة لها مع الأديان الأخرى، لا يمكن لها الجري بسرعة فائقة، لا سيما ان هناك أوساطاً دينية متزمتة لا توافق على مبدأ التحاور واحترام الدين الآخر. لذلك، ان الواقعية في محلها ومن الضروري تفهم الاجراءات التدريجية حتى وان كان بعضها بطيئاً جداً في نظر المراقبين من خارج الساحة السعودية.
كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود من منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم افتتاح الاجتماع كانت مليئة بالمؤشرات المهمة. قال ان الأديان يجب ان لا تتحول الى أسباب laquo;شقاءraquo; البشر، وان التعصب أدى الى نشوء laquo;حروب مدمرةraquo;، وان التنكر لمبدأ العدالة سبب أزمات للعالم، وان الارهاب والاجرام عدوان لكل دين وحضارة، وما كانا ليظهرا لولا غياب مبدأ التسامح.
الملك عبدالله لم يتردد في استقبال القيادات الروحية اليهودية والمسيحية وغيرها أثناء وجوده في نيويورك. لم يعتذر عن حضور العشاء الذي اقامه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون مع انه كان يعرف ان الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريز سيحضر العشاء. أوضح مسبقاً انه ليس راغباً بالمصافحات، لكنه حضر العشاء جالساً الى طاولة مجاورة للطاولة التي ضمت شمعون بيريز وقيادات دولية وعربية.
بقي العاهل السعودي جالساً في قاعة الجمعية العامة عندما خطب بيريز ولم يغادرها محتجاً واستمع صاغياً الى كلام الرئيس الاسرائيلي وهو يثمن مبادرته لحوار الأديان ويعلن قبول اسرائيل لمبادرة السلام العربية التي أطلقها الملك عبدالله. كل هذا ليس دليلاً على الضعف وانما هو دليل على القوة والعزم على إحداث تغيير في طريقة العمل على ايجاد حلول جذرية مبنية على العدالة نحو القضية الفلسطينية. انه دليل على الشجاعة السياسية وعلى عقد العزم الجدي لإخراج المسلمين والعرب والسعودية من تحت ركام التهمة بالتعنت والتعصب والارهاب والتهرب من السلام والمسؤولية. وإذا تلقت القيادة الاسرائيلية هذا التطور المهم في طريقة تعاطي السعودية معها على طريقة laquo;خذ وطالبraquo; فإنها سترتكب خطأ فادحاً وتسيء قراءة رسالة حسن النيات وفتح الآفاق.
وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني أوشكت على ارتكاب هذا الخطأ أثناء مؤتمرها الصحافي المشترك مع شمعون بيريز في مقر الأمم المتحدة. طالبت بسذاجة وبنية سيئة بإجراءات لا لزوم لها مثل تغيير اللغة الصادرة عن المساجد والمدارس التي تنتقد اسرائيل وتحتج على ممارساتها. فما من شأنه ان يخفض اصوات النقد هو توقف اسرائيل عن ممارساتها التعسفية ضد الفلسطينيين مثل تدمير منازلهم، وفرض الحصار الاقتصادي عليهم، وتطويقهم في المعابر، وبناء الجدار العازل على اراضيهم، ومصادرة بيوتهم من أجل بناء المستوطنات غير القانونية وغير الشرعية. ان وسيلة إنهاء النزاع العربي - الاسرائيلي تكمن في انهاء الاحتلال الاسرائيلي المستمر منذ عام 1967. هكذا يمكن لاسرائيل العيش بسلام وتطبيع علاقاتها مع جيرانها العرب، وفقاً للتعهدات الواضحة في المبادرة العربية للسلام. وقد حان الوقت لتكف القيادات الاسرائيلية عن هروبها المستمر من السلام ومسؤولياته.
مجيء إدارة جديدة الى واشنطن ووعد الرئيس المنتخب باراك أوباما بالتغيير وتصحيح مسار اللاعدالة يجب ان يكون حافزاً للشعب الاميركي ليستيقظ الى دوره إما في إطالة نزاع الشرق الأوسط أو في التوصل الى حل هذا النزاع. فالحل في المتناول، والجميع يعرف الطريق اليه. وأول ما يجب على الاعلام الأميركي والغربي عامة القيام به هو النزول عن عرش التفوق وقراءة نص المبادرة العربية للسلام التي يمكن الجزم بأن الأكثرية الساحقة من الاعلاميين الاميركيين لم تقرأها ولو مرة.
اليوم توجد فرصة متاحة للقراءة الضرورية لتلك المبادرة المفتوحة على تعديلات طفيفة عملية. توجد حاجة للتنبه الى اهمية ما جرى في الجمعية العامة يوم الاربعاء الماضي من تبادل رسائل عربية - اسرائيلية ذات مغزى مهم لمستقبل علاقات دول المنطقة. اليوم أمام الرئيس المنتخب باراك أوباما الأدوات الضرورية لإحراز نقلة نوعية في ملف الشرق الأوسط إذا شاء.
الرئيس المنتخب يعرف بالتأكيد ان الدور السعودي لا ينصب حصراً في المسألة الفلسطينية - الاسرائيلية وانما يمتد الى قضايا اخرى تهمه وفي طليعتها العراق وايران وافغانستان وباكستان الى جانب الدور السعودي في معالجة الأزمة المالية والاقتصادية الدولية.
الرئيس المنتخب رجل محظوظ لأن الأزمة الاقتصادية التي رافقها هبوط أسعار النفط الى حوالي الثلث ستؤثر جذرياً في سياسات الدول التي يفترض ان تشكل له تحدياً كبيراً وفي طليعتها روسيا وايران وفنزويلا. فالسعودية لن تتأثر بهبوط أسعار النفط وهي قادرة على تحمل هبوط الأسعار الى اقل من 50 دولاراً للبرميل علماً أنه سبق وارتفع الى ما يقارب 170 دولاراً.
ربما هذا سيحد من الطموحات وسيؤثر في الاستراتيجيات ليضفي عليها الهدوء والحكمة، وربما العكس. انما بغض النظر عن هذا، يبقى أن دول المنطقة الأخرى، وبالذات السعودية، تستفيد من هذا التطور وهي عازمة على توظيفه لصالح غاياتها الاستراتيجية.
هذه الغايات ليست تصادمية، بل على العكس، فالسياسة السعودية ربما لها ظلال مختلفة لكنها في طبيعتها، وفي نهاية المطاف متجانسة الى حد كبير. هذه السياسة تستند الى الرغبة في تجنب الصدامات وبناء التفاهمات. وفي هذه المرحلة بالذات يبرز توجه سعودي ليس فقط كي تكون المملكة جزءاً من التحاور والشراكات الاستراتيجية التي لا تقوم على الاستبعاد. هناك توجه أيضاً لضمان ألا تكون السعودية خارج اطار التفاهمات والحوارات. بكلام آخر، تريد السعودية أن تكون طرفاً دائماً في أي تطورات، لا سيما في هذه المرحلة الانتقالية في السياسة الأميركية. وهذا ليس خوفاً مما قد يحدث في استغيابها وانما حرص على ابلاغ العزم على عدم الاستغياب والإصرار عليه.
بكلام آخر، إن فحوى الرسالة السعودية هو: نحن هنا. بكل معنى الكلمة، وبكل أبعاد استحقاقات التطورات الاقليمية والعالمية: نحن هنا. وهذه رسالة ذات دلالات مهمة لأن الخط السعودي القديم كان متمثلاً في الانطباع السائد بالترفع عن الانخراط. اما اليوم فالسعودية جادة في إبلاغ من يعنيهم الأمر أنها جاهزة وقادرة إذا توافرت المعطيات، ومستعدة وراغبة إذا توافرت التجاوبات العقلانية.
خطورة هذه الرسالة ليست في فحواها وانما في إمكانية تباطؤ بثها. لذلك، إن الأنظار منصبة على السعودية اليوم لتراقب بكل اهتمام كيف ستسير قدماً في ما بدأته بمسيرة جديدة ونوعية لها وللمنطقة، تحت شعار الاعتدال في سبيل التصدي لقوى التطرف المدمرة. هناك مصالحات مهمة تحدث على الساحة الخليجية على نسق المصالحة السعودية - القطرية والتي يبدو أنها انتقلت الى مرتبة إصرار الملك عبدالله على جلوس رئيس الوزراء ووزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني الى طاولته سوياً مع الأمين العام للأمم المتحدة ضارباً بعرض الحائط ترتيبات البروتوكول التابع للأمم المتحدة ليل العشاء في مقرها. وهذا ليس بتطور طفيف، لا سيما في مرحلة إعادة صياغات عديدة لسياسات منطقة الخليج والعلاقات الدولية.
الكل يستعد للتغيير الذي فجرته عدوى التغيير الأميركي. وكل ذلك يشكل فرصة فريدة ربما يصعب فهم أبعادها الآن. إنما مجرد توافر ذلك الزخم في الرغبة وفي الفرصة يشكل اندفاعاً يحمل في طياته عدوى مثيرة.