عبد الله بن بجاد العتيبي

لم تزل سوريا تشهد تصاعدا في كمية ونوعية الانشقاقات التي تجري، وكما دل انشقاق مناف طلاس على تصدّع النواة الصلبة لنظام بشار الأسد فإن انشقاق رياض حجاب رئيس الوزراء المعيّن حديثا مع بعض وزرائه والضباط التابعين له يحمل دلالة أخرى هي أن أغلب من يخدمون الأسد من السوريين إنما يفعلون ذلك تحت تهديدات قواته وأنّ بعضهم - إن لم يكن كثيرا منهم - يفتّشون عن طريق للخلاص من قبضته ودائرته والطريقة التي اختارها لمواجهة عداء شعبه له بالقتل والتدمير وخلق الحرب الأهلية وإنعاش الطائفية وبقايا الحلم بإنشاء دولة علوية في جبال العلويين تكون ملتجأه الثاني وليس الأخير، فملجؤه الأخير لن يعدو طهران أو موسكو أو مصيرا يكتبه الشعب الغاضب والمحتقن حين يعلن انتصاره الكامل.

تفتّت الدائرة الضيقة حول الأسد والحكومة التي عيّنها والجنرالات الذين سمح بوصولهم للمناصب العليا وضبّاط جيشه وجنوده يتمّ كلّه بالتنسيق مع الجيش الحرّ المحارب له والممثل لطموحات الشعب السوري، لا مع إيران التي تستميت في الدفاع عنه ولا مع موسكو والصين الحاميتين الدوليتين لنظامه المتصدع والمنهار، فالجيش الحرّ يؤمن سبل خروجهم وتأمين عائلاتهم ويقوم بتلك العمليات باحترافية تثير الإعجاب.

وعلى الرغم مما تحمله هذه الانشقاقات من دلالات التفكك في بنية النظام الصلدة فإن لها دلالة أخرى، وهي أن أجهزة أمن النظام المتعددة والتي تفوق العشرة أجهزة تقريبا هي أجهزة مهترئة ومتفككة كذلك، وذلك أنها كما يظهر كانت تعتمد جميعا على هيبة النظام وبطشه والرعب الذي يبثه من خلالها ولكنّها لا تحسن العمل بالطرق الحديثة والمحترفة، ولم تكتسب الخبرة اللازمة التي سعت إيران جهدها لتدريب عناصر قوّات الأسد عليها لتتفنن في قمع الشعب كما صنعت هي مع الثورة الخضراء.

اضطرت إيران تحت هذا الضغط الشعبي الهائل في سوريا أن تعلن أنها لن تسمح بكسر ظهرها ومحورها المقاوم والممانع الذي اتضح كذبه وطائفيته، وأن تسعف نظام بشار الأسد بعناصر الحرس الثوري الإيراني الذين يقصفون حلب بالطائرات التي يخشى بشار من قيادة السوريين لها فلم يعد يثق بأحد منهم أن ينقلب عليه ويقصف قصره إن اعتلى إحدى الطائرات، ومن ذلك قدرة الجيش السوري الحر على أخذ أربعين إيرانيا رهائن من قلب دمشق وتحت سمع الأسد وبصره، وها هي إيران تتخبط بين الهجوم على بعض الدول الإقليمية ومطالبتها بالتدخل لإنقاذهم باعتبارهم سياحا دينيين، وبغض النظر عمّا بثّه الجيش الحرّ من أنّ بعضهم وفق وثائقهم التي معهم ضباط في الحرس الثوري الإيراني وهو ما أقرت به إيران لاحقا، غير أنّ السؤال الأكبر هو هل يعقل أن ترسل إيران سيّاحا دينيين إلى دمشق في هذا الوقت الذي تعرف إيران قبل غيرها أن نظامها الحليف هناك يتداعى؟ ثم ألم يكن بإمكانها إرسالهم لعتبات أكثر قداسة في إيران أو العراق مثلا؟

واضح من كل ما سبق أن عدوى التخبط والتشويش بدأت تنتقل من نظام الأسد إلى النظام الإيراني الذي يعاني أشدّ المعاناة داخليا ويفتش عن مخرج خارجي يلهي به الجمهور عن كل الغضب الداخلي المكبوت لدى الشعب الإيراني جرّاء عقود من الاضطهاد والديكتاتورية باسم الله والمذهب ضدّ كل عناصر الشعب، وضد الثورة الخضراء التي لم تندمل جراح نظام الملالي منها بعد، والتي يزيد في انتشائها وتصعيدها ما بدأ يواجهه نظام الملالي هناك جرّاء العقوبات الاقتصادية الصارمة التي لا تمنحه غير موت بطيء يتمّ تحت أمجاد حلم قديم بامتلاك السلاح النووي وفرض الهيمنة الإقليمية لم يعد له ما يبرره على الأرض، وباتت إيران حائرة بين الإقرار بالواقع الجديد الذي يفرض نفسه على الأرض وأن ترضى من الغنيمة بالإياب وبخفي حنين فقط، وبين التشبث بالأحلام القديمة التي لن تؤدي إلا إلى السقوط المريع والمدوّي لثلاثة عقود من الغطرسة والعدائية والأوهام الطائفية والانحياز لخيار شمشون لتتحول للتفتيش في الأرض عن مديتها التي تقتلها.

لبئس ما قدّم نظام الملالي لنظام الأسد من نصائح تعتمد التركيز على البعد الطائفي في لعبة السياسة، فقد غرّتهم عقود اللعب على الوتر الطائفي في المنطقة، حين نجحوا من خلاله في التهام دولة العراق عبر أتباعهم المعلنين وعبر استخدام قوّة الإرهاب للموالين والمخالفين، ودولة لبنان كذلك حيث صنعوا حزبا طائفيا وسلحوه حتى استطاع اختطاف لبنان لفترة من الزمن جرّ عليها كل الخراب الذي يمكن تصوّره، وسعت لخلق جراثيم سرطانية في كثير من الدول العربية، في البحرين حيث المخربون وفي اليمن حيث الحوثيون وبزرع خلايا الإرهاب والتطرف الاستخباراتية في الكويت وفي اليمن وفي عدد من الدول غيرها، فهو كما يبدو أسلوب إيراني عتيق.

حين كتب كاتب هذه السطور عن أوهام الأسد ببناء دولة علوية في جبال العلويين لم يكن يمتلك إلا منطق التاريخ وقراءة الواقع وتحليله وقبل أيام تحدّث الملك عبد الله الثاني ملك الأردن عن نفس الفكرة وهو من حذّر من قبل من مشكلة laquo;الهلال الشيعيraquo; التي رأيناها رأي العين لاحقا، فهو تصريح قائد سياسي يمتلك الكثير من التفاصيل والمعلومات التي تجعل حديثه محل عناية واهتمام.

لقد بدأ تغيّر جدير بالملاحظة في الموقف الأميركي والغربي عموما تجاه التعامل مع الوضع في سوريا خارج مجلس الأمن، وبعد ذهاب عنان وخطته إلى غير رجعة وبعد تغير موازين القوى على الأرض، وبعد وضوح الصورة بأن النظام ذاهب لا محالة فقد تنوّعت الرسائل الغربية تصريحا وتلميحا أنها بصدد سياسة جديدة تجاه سوريا والأوضاع التي لا تطاق هنا من جرائم يشيب لها الولدان ومجازره تصفيات عرقية وطائفية يندى لها جبين التاريخ، ويأتي ذلك بعد تزايد الانتقادات الموجهة لإدارة أوباما من بعض كبار الساسة الغربيين السابقين الذين عبّروا في انتقاداتهم عن التفريط بمكانة أميركا في العالم حيث سمحت للروس والصينيين بالعودة إلى المشهد الدولي بقوة تضر بمصالح أميركا الاستراتيجية في المنقطة والعالم.

أخيرا سقط laquo;حجابraquo; النظام داخليا بانشقاق رئيس الوزراء وبقي laquo;الحاجبraquo; الحامي الخارجي ممثلا في إيران إقليميا وروسيا والصين دوليا، وهو حاجب يتضعضع لا تسمح له الظروف بالاستمرار طويلا وسيتغير حتما.