كمال الذيب

 حدود المسألة الديمقراطية هل أصبحنـــا أمــــة خـــــارج التاريـــــخ؟!

 

بعيدًا عن الجدل النظري حول الديمقراطية وعلوية الحرية في أي نظام ديمقراطي، فإن التجارب في العالم الديمقراطي ذاته بينت انه عندما يحدث التعارض بين الحرية والقانون يتم تقديم مقتضيات تطبيق القانون عن الحرية (رأينا ذلك في فرنسا وفي بريطانيا وفي الولايات المتحدة الامريكية)، وعندما يقع التعارض بين الحرية والأمن يتم بشكل آلي تقديم الأمن عن الحرية، رأينا ذلك في أمريكا وفي فرنسا وفي بريطانيا وفي اليونان..
المسألة اذن تنتهي بنا إلى انه من حق الدولة الديمقراطية تقييد عمل المجموعات المتجاوزة للقانون او المثيرة للفوضى والشغب، حتى وان كانت تفعل ذلك من اجل الديمقراطية، على ان يكون هذا التصدي بواسطة القانون، فعندما تشكل هذه الجماعات خطرًا على وجود الديمقراطية والحرية نفسها يتم في المجتمع الديمقراطي اتخاذ الإجراءات القانونية لحماية الحرية والديمقراطية دون تردد.
ويظهر هذا التوجه أيضا عبر سن قوانين تمنع التحريض الفوضوي وانتهاك حرية المجتمع، ومنها حقه في ممارسة حياته الطبيعية والوصول الى حقوقه الثابتة، وعندما يكون هناك خطر يتهدد الديمقراطية فإنه يمكن المس ببعض الحقوق الأساسية وبصورة استثنائية، مثل تقييد حرية الحركة وحرية التعبير وحرية التظاهر لضمان استمرارية النظام الديمقراطي، لذلك فالدولة التي لا تعير هذه الحقيقة اهمية تواجه خطرًا حقيقيًا يهدد النظام الديمقراطي وكيانها نفسها، لان عدم تطبيق القانون ضد نشاط المجموعات الفوضوية يشجعها (وهي في الغالب الاعم غير ديمقراطية ولا تحترم الحريات والمساواة بين الرجال والنساء) على تخريب أسس التعايش الاجتماعي والوحدة الوطنية.
وباختصار، عندما يكون هناك خطر حقيقي يتهدد أمن الدولة وينشأ تضارب بين الأمن والمبادئ الديمقراطية مثل حقوق الإنسان والمواطن، تسمح دساتير الدولة الديمقراطية بالحد المؤقت من بعض الحريات الأساسية في حالات الطوارئ والحروب وانتشار الفوضى لحماية أمن الدولة وضمان استمراريتها. وفي أوقات الطوارئ والحرب تفرض الدولة الديمقراطية الرقابة وتقيد الحرية الاعلامية، وهذا مس ضروري ولكن لا يجب ان يكون ذلك دائما وإنما يكون استثناء.
إن الأساس هو إرساء دولة القانون والمؤسسات، حيث يأتي احترام القانون في مقدمة الحياة السياسية السليمة التي لا مجال فيها للتهاون أو التنازل أو التسامح مع الفوضى والعبث والتسيب، ودولة المؤسسات تعني بالضرورة مرور كل القضايا الأساسية عبر المؤسسات وحدها، وأن الذي يريد أن يغير التشريع أو يؤثر في السياسات عليه أن يعمل من داخل المؤسسات الديمقراطية للتأثير عليها. وهذا يتطلب إجماع السلطة والأحزاب والجماعات والجمعيات على حماية الديمقراطية بالالتزام بالقانون، في جميع الأحوال. وعليه فإنه مثلما لا يجوز للسلطة أن تلجأ إلى تجاوز القانون في التعامل مع الناس، فالأحرى بالناس وبالمؤسسات ألا يتجاوزوا القانون بل ان من واجب الجميع المحافظة على المكتسبات الأساسية للوطن، بما فيها المكتسبات السياسية والاقتصادية وغيرها، فلا يوجد أي مبرر يمكن أن يسمح لأحد أو جماعة أو حزب بالاعتداء على تلك المكتسبات والإضرار بأمن المواطنين والمقيمين وأملاكهم. ولذلك فإنه في غياب الشراكة الديمقراطية وتحمل القيادات الحزبية والدينية والمدنية مسؤولياتها الكاملة لحماية الديمقراطية والدفاع عنها، سواء ضد تجاوزات السلطة أو ضد تجاوزات الأفراد أو تجاوزات الجماعات الارهابية فإنه لن تكون هنالك ديمقراطية حقيقية على المدى البعيد. لأن الديمقراطية هي احترام للقانون. فالديمقراطية تعني في النهاية اقتناعًا بجدواها ومحتواها وقبولاً بمتطلباتها ومقتضياتها، وليس القبول الشكلي بها لتحقيق مكتسبات ظرفية لان الديمقراطية مشروع متكامل يتجاوز أشكال المفارقات والازدواجيات، مثل رفض الديمقراطية في الممارسة وقبولها خطابيًا، والحديث عن السلمية نظريا وممارسة العنف عمليًا.
صحيح أن الديمقراطية هي في الاساس حرية، وليست مجرد فعل إرادي لحظوي وليست مجرد صناديق اقتراع يحتكم إليها الناخبون، وليست اقلية وأغلبية فقط، وانما هي حرية واحترام للحرية، فسلطة الصناديق لا يجب ان تسمح للفائزين بضرب الحريات الخاصة والعامة، وبالتالي إعادة انتاج الاستبداد، ولكن صحيح أيضا ان القوى المتطرفة يمكنها ان تتمكن ديمقراطية ثم تنقلب عليها، ونذكر هنا بالتجربة الفاشية في ايطاليا والتجربة النازية في ألمانيا، وهما التجربتان اللتان وصلتا الى السلطة عبر صناديق الاقتراع بنسبة تفوق 80% من اصوات الناخبين، ومع ذلك كان الحزبان الفاشي والنازي حزبين غير ديمقراطيين، انقلبا على الحرية ودمرا المجتمعين الايطالي والالماني والعالم قاطبة. وقياسًا فإن المؤشرات الخطيرة وراء استبداد الجماعات السياسية - الدينية في البلاد العربية والتي سعت وتسعى اليوم الى الوصول الى السلطة في عدد من البلدان العربية وبينت التجربة أنها لا تطيق الحرية ولا تحتمل الديمقراطية، مثل الذين يصلون الى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع بحصولهم على الاغلبية ويعتدي على الحرية، فالشرعية يجب ان تكون شرعية المحافظة على الحرية واحترام الحرية. وهذا اشكال كبير جدا.
إن الديمقراطية في مجمل الأحوال تقتضي وجود توافق - وهذا امر تحدثنا عنه العديد من المرات - التوافق حول مشروع مجتمعي على نظام سياسي مدني يتوافق الناس على معماره الأساس والعناصر الكبرى والثوابت الأساسية (التوافق وحول طبيعة الدولة-طبيعة المجتمع وطبيعة الاقتصاد وطبيعة الحكم. ضمن سياق الحرية والدولة المدنية الحداثية)، وهذا ما حدث في البحرين من خلال ميثاق العمل الوطني بما يشبه الاجماع، ولذلك لم يكن هنالك من داع للنكوص على هذه الثوابت او التحريض عليها مثلما حدث فتحقيق البناء الديمقراطي على أساس هذ التوافق هو عقد اجتماعي ممتد لا يمكن الانقلاب عليه في أي لحظة.
كما يتوجب في هذا السياق ان نؤكد مجددا إن الفصل بين السياسة والدين هو حد اهم ثوابت البناء الديمقراطي، ومن دونه فلا مستقبل للديمقراطية، فحتى أوربا قد سبق لها خوض حروب على مدار قرن كامل من الزمن لتحرير الإنسان والمجتمع من التشابك بين الدين والسياسة، انتهت بالفصل الصريح بين الجانبين، ونحن لسنا خارج التاريخ والإنسانية، إلا إذا كنا نتحرك في اتجاه مضاد لحركة التاريخ.
همس
المستشرق الأمريكي البريطاني برنار لويس يقول: «المسلم الممتلئ بروح الأمة السامية، والذي لا يتصور نفسه إلا سيدًا للعالم يجد صعوبة في الأخذ عن الأمم (الكافرة) أو تقليدها في صنائعها وأنماط حياتها. ولذلك فالديمقراطية ستظل نبتة غريبة وذابلة في أرض المسلمين بسبب ثقافتهم السياسية التي تحل فيها قيم الطاعة محل الحرية، والمؤمن بدل المواطن، والأمة محل الفردية، هذا إذا استثنينا الحالة التركية التي تقدم نموذجًا ملهمًا»