محمد علي المحمود

تُلِحّ مسألة علاقة المُتَأسلمين/ الإسلامويين بالديمقراطية على الجدلية الفكرية/ السياسية في العالم العربي.. هي مسألة مُقلقة؛ بقدر ما هي شائكة من جهة، وخطيرة -في مخرجاتها النهائية- من جهة أخرى. وقد تنامت درجة الوعي بأهميتها، وأصبحت شديدة الإلحاح على التفكير السياسي والديني، بعد موجة احتجاجات الغضب، أو ما يُسمى بـ(الربيع العربي)؛ نظرا للشعبية الكبيرة التي حظيت بها الأحزاب المُتأسلمة وجماعات الوعظ الديني، وهي التاريخية الشعبية التي تمتد جذورها إلى مرحلة أفول الخطاب العروبوي بعد هزيمته الساحقة المخزية عام 1967م.

 الديمقراطية في تمظهرها الشكلاني مشروطة بالعدد، أي بالجماهيرية.. وبلا شك، تتمتع هذه الأحزاب والتيارات الإسلاموية بجماهيرية كاسحة؛ نتيجة تماهيها مع المقدس الديني الذي تتوهج به مشاعر الجماهير من جهة، ونتيجة اشتغالها على شعوب أُميّة أو شبه أمية، لا تستطيع التفاعل مع ما يتجاوز حدود هذا الخطاب البسيط من جهة أخرى، فضلا عن استثمارها في الأحلام الطوباوية الواعدة بـ"الفردوس الأرضي" الذي تداعب به أحلام ملايين المسحوقين في عالم عربي يموج بأقسى حالات البؤس والتخلف والفقر والقهر والاستبداد.

يستحوذ المتأسلمون على أي نشاط انتخابي حر؛ لكونهم يتوسلون وسائل تنظيمية جماهيرية تقليدية، ووسائط إعلامية متوارثة يصعب -إن لم يكن مستحيلا- رصدها ومراقبتها، كالمساجد والجوامع والأنشطة الدعوية ذات الطابع الديني الصريح. وهذا ما جعلهم في صلب الجدلية السياسية الراهنة، بحيث لا يمكن تجاوزهم بالمطلق؛ إذا ما أريد للعملية السياسية أن تأخذ طريقها إلى بَرّ الأمان.

لكن، أين مصدر القلق الحقيقي في كل هذا؟، أين المشكلة؟، لماذا لا يُترك للاستحقاق الانتخابي/ الديمقراطي أن يصل إلى غايته الطبيعية؟، هل المشكلة تكمن في أن المتأسلمين يمتلكون من الشعبية ما يمكنهم من الاستفراد بمفاصل السلطات المادية والمعنوية، بحيث لا يتركون لغيرهم فرصة للمشاركة، وبالتالي، تسير المجتمعات نحو استبداد يبدأ ناعما/ غير مقصود، استبداد تفرضه مبادئ الأكثرية الديمقراطية التي من المتوقع أن تتنامى باطراد؛ بعدما تمسك الأكثرية العددية بالبقية الباقية من أدوات التوجيه والإرشاد.

من المؤكد أن هذه مشكلة لا يمكن القفز عليها بتجاهلها، بل إن تجاهلها غير مستساغ إلا بتجاهل الخيار الديمقراطي من الأساس.. لكن، يبقى السؤال بعد كل هذا: أين المشكلة؟ في اعتقادي لأن المشكلة الأساس تكمن في مراوغة/ مكر الخطاب الإسلاموي، خاصة في هذه المسألة (الديمقراطية)، وما يتعلق بها من مفردات واشتراطات لا يزال يعتورها الغموض والارتباك. لا تزال الجماعات/ التيارات المتأسلمة تعلن عن شيء في المسائل الديمقراطية -وفي الوقت نفسه- تحتضن أدبيات تتعارض قطعيا مع الخطاب المعلن للاستهلاك الإعلامي العام.

وحتى لا يكون هذا الاتهام كلاما في الهواء كما يقال، سأعرض هنا ما كتبه أحد أهم المهتمين بالتغيير الديمقراطي، والإسلام السياسي في العالم العربي: دانيال برومبرغ، وتحديدا فيما كتبه عن التجربة الأصولية عموما، والتجربة الجزائرية أوائل التسعينيات خصوصا (ما أنقله عنه هنا موجود في بحثه المنشور في كتاب: "التعدد وتحدّيات الاختلاف"، وهو من إعداده. راجع ص305 إلى ص322)، وهي التجربة التي تختصر الكثير، ليس في وقائعها الدراماتيكية، ولا في الخطابات المصاحبة داخل الجزائر وخارجها، وإنما تختصر الكثير من مخرجات الصراع المشتعل -بشكل صريح أو مضمر- بين هذه الحركات الأصولية وحكوماتها من جهة، وبينها وبين مجتمعاتها من جهة أخرى.

يشرح دانيال برومبرغ (الذي يرأس مؤسسة إحلال الديمقراطية والتغيير السياسي في الشرق الأوسط) الحالةَ الجزائرية من زاوية وفاء المتأسلمين للمبادئ الديمقراطية، أو -على نحو أدق- بالتركيز على هذه الزاوية. في البداية يطرح التساؤل الأهم، السؤال الذي يؤطر الموضوع كله: "كيف نعلم إن كان الإسلاميون يدعمون الديموقراطية بحق أو ينخرطون في التكتيك ليس إلا؟".

إن الخطاب الإسلاموي ليس كأي خطاب، فهو بزخمه الجماهيري يفعل ويؤثر على أكثر من صعيد، ليس في مجاله الخاص فحسب، وإنما في المجال العام أيضا. وهذا ما يؤكده بقوله: "الخطاب الإسلامي مهم لأنه جزء لا يتجزأ من الاستراتيجيات السياسية التي تؤثر على مفاهيم النخب الحاكمة والمعارضة وأفعالهم". والمراد هنا أن تأثير هذا الخطاب يذهب إلى أبعد نقطة، حيث خطاب المعارضة والحكومة، إذ يضطر هؤلاء المعارضون تحت تحدي الفاعلية الجماهيرية المتماهية مع خطاب التأسلم لإدخال تغييرات على خطاباتهم وعلى استراتيجياتهم السياسية؛ حتى لا يقعوا فريسة اتهام هذا الخطاب لهم بالتنكر للإسلام، أو بتجاهل أصالة الهوية، وهي الهوية العائمة التي قد تتجاوز علائقها الرمزية إلى ما وراء الحدود الوطنية، كالقضية الفلسطينية مثلا.

يتساءل دانيال برومبرغ عن إمكانية وجود: "ديموقراطية بلا ديموقراطيين"؛ لأن إمكانية هذا يعني أن المتأسلمين، والذي هم غير ديمقراطيين -كما يظهر من الشواهد القولية والعملية- سيشتغلون ديمقراطيا؛ إذا ما عملوا من خلال نظام ديمقراطي؛ لأن الحسابات العقلانية/ الواقعية، ومن مبدأ ذرائعي، هي التي تُولّد المساومات الديمقراطية، وليست الحسابات الفلسفية أو الأخلاقية أو الإيديولوجية. ومع أنه يميل -بتحفظ- إلى القول بالإيجاب، أي بإمكانية وجود ديمقراطية من غير ديمقراطيين، إلا أنه يؤكد استحالة التغاضي عن دور القيم والأنظمة التربوية في بلورة وعي سياسي يُدير الصراع في حدود مشروعية سياسية ذات طابع مدني سلمي. وحتى تتضح الصورة؛ يشرح ذلك بنموذج حي. يقول: "الرئيس نيلسون مانديلا أثبت في جنوب أفريقيا أنه لا يمكننا الوصول إلى تقاسم السلطة ما لم تؤمن النخب، ضمنيا على الأقل، بالتعددية بمثابة غاية مشروعة بطبيعتها. باختصار، ينبغي علينا أن نأخذ دور الإيديولوجية في تأمين المساومات الديموقراطية أو إعاقتها". والمعنى أن مراجعة الخلفيات الإيديولوجية للمشاركين السياسيين ليس ترفا فكريا/ سياسيا، بل هو مقاربة ضرورية لذات العملية السياسية.

قبل أن يستحضر دانيال برومبرغ مقولات المتأسلمين الجزائريين، يعود إلى الجماعة الإسلامية الأم (جماعة الإخوان)، وهنا يستشهد بمواقف حسن البنا التي كانت تُشدّد على "الأمة الواحدة"، وتُدِين التعددية الحزبية التي هي شرط العمل الديمقراطي. هنا يشرح كيف أن الأصولية الإصلاحية التي ينتمي إليها البنا تنشط من خلال مقاربات نفعيّة ترى في السياسة -والدولة نفسها- مجرد أداة لتحقيق الإرادة الأخلاقية الجماعية. وهو لا يكتفي بتذكيرنا بخطاب البنا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، بل يستحضر تصريحات المرشد الخامس: مأمون الهضيبي في مقابلة أجراها عام 1996م (أي بعد حوالي نصف قرن) والتي يؤكد فيها أن "المنهج واحد لا تغيير ولا تبديل"؛ عندما سئل عن الفارق بين الإخوان المسلمين اليوم والإخوان زمن المؤسس حسن البنا. ومع ذلك، يُحاول الهضيبي وغيره من رموز ومفكري الإخوان الاعتذار عن موقف البنا الرافض للأحزاب، بأن رفضه الأحزاب كان بسبب ظرفي، أي بسبب تناحر الأحزاب وانتهازيتها في تلك الفترة الخطيرة التي كانت فيها مصر تكافح من أجل الاستقلال.

أيا كان الأمر، ففي المحصلة، يرى دانيال برومبرغ أن هذه الأصولية الإصلاحية مراوغة، إذ نجدها تستورد مفاهيم حداثية من جهة -وفي الوقت نفسه- تؤسس لمفاهيم قروسطية إسلامية من جهة أخرى؛ كنوع من التدرج للوصول إلى النظام المنشود.