السيد ولد أباه

فيما تشتد معارك الموصل وحلب، تنمو آمال محدودة في عودة الحياة الطبيعية إلى بيروت بعد انتخاب رئيس الجمهورية الجديد «ميشال عون» بعد ثلاثين شهراً من أزمة سياسية طاحنة رمَزَ لها شغور منصب الرئاسة في لبنان.

المدن الثلاث من الحواضر العربية العريقة بماضيها السحيق في العصور القديمة (الفينيقية والرومانية والآشورية) وفي العصور الوسطى العربية الإسلامية، لكن ما يهمنا هو أنها شكَّلت عواصم النهوض والتحديث في تاريخ العرب المعاصر، كما شكّلت مراكز البناء السياسي لدول المشرق العربي بعد نهاية العهد العثماني والاستعمار الأوروبي.

الموصل وحلب مدينتان صنوان من حيث التاريخ والنسيج الاجتماعي، ترمز كلاهما لتنوع الحالة الدينية والثقافية والقومية في البلدين بتركيبته العربية الكردية التركمانية المسيحية المسلمة.. كما تشكلان المنافذ الاستراتيجية مع العلمين التركي والفارسي وجسر الوصل بين المجال المتوسطي والخليج العربي.

لم يكن للدولة العراقية الحديثة أن تتشكل في بداية العشرينيات من القرن الماضي لو لم تلحق بها الموصل التي ظلت موضوع تجاذب حاد بين بريطانيا وفرنسا منذ الحرب العالمية الأولى، وبين سلطات الانتداب الفرنسي وتركيا التي لم تتنازل عن الموصل إلا عام 1926.

ومع أن الموصل لم تكن في أغلب مراحل تاريخ بلاد الرافدين جزءاً من العراق، فإن مجموعة من المقتضيات الموضوعية فرضت انتماءها للدولة الحديثة التي صممها المستعمر البريطاني عام 1920 منها على الخصوص: تركيبتها السكانية بأغلبيتها السُّنية التي شكلت نمطاً من التوازن مع الجنوب الشيعي، وثرواتها النفطية التي منحت الدولة الوليدة قاعدة اقتصادية صلبة.

بيد أن المدينة التي كانت محور المجال العراقي كله في العهد العثماني عانت من التهميش والإهمال منذ قيام الدولة الحديثة (رمزت انتفاضة 1959 بزعامة العقيد عبدالوهاب الشواف لنقمة سكان المدينة)، وازدادت المِحنة بعد الاحتلال الأميركي 2003 الذي أفضى إلى قيام حالة من التمييز الطائفي ضد سُنّة شمال العراق قبل أن تستولي عصابات «داعش» على المدينة عام 2014 وتعلنها عاصمة لخلافتها الوهمية.

أما حلب الحديثة فهي عاصمة التنوير المشرقي الكبرى التي ينحدر منها رائد الإصلاح السياسي والديني عبدالرحمن الكواكبي، وكانت في العصر العثماني ثالث أهم مدن السلطنة إلى جانب إسطنبول والقاهرة، باعتبارها قاعدة تجمع الجيوش العثمانية وجبهة الصراع ضد إيران الصفوية ومحور طريق الحج والمعبر ما بين إسطنبول والقاهرة، كما شكَّلت محور الحياة السياسية في الدولة الحديثة التي بنتها النخب الهاشمية قبل أن تعيد سلطات الانتداب الفرنسي بناءها. ومع أن المدينة عُزلت عن مجالها الحيوي (في جنوب تركيا وشمال العراق)، كما اقتُطع منها ميناؤها المحوري (الإسكندرونة)، فإنها ظلت العمود الفقري لاقتصاد الدولة السورية الحديثة رغم السياسات التمييزية الإقصائية ضد نخبها السياسية والتجارية.

وكما أن الموصل وحلب تحولتا اليوم إلى مدينتَي أشباح بعد أن هجرهما جل سكانهما تحت وقع الحروب والفتن والصراعات الإقليمية، فإن بيروت التي كانت منارة النهوض والتنوير في العالم العربي المعاصر منذ القرن الثامن عشر، فقدت هويتها وبريقها، ودخلت آخر مراحل الانحطاط الذي بدأ مساره مع الحرب الأهلية في السبعينيات ثم الاجتياح الإسرائيلي قبل أن تصبح محمية إيرانية.

ما يعكسه دمار المدن الثلاث التي تمحور حولها التراث النهضوي والتحديثي العربي، وكانت عواصم اليقظة العربية المعاصرة، كما اضطلعت نخبها ببناء نموذج الدولة الحديثة.. هو إخفاق ديناميكية التحديث الفكري والسياسي في البلاد العربية وفشل تجربة دولة المواطنة المدنية. المفارقة الكبرى هي أن هذه المدن التي حافظت في العصور الوسيطة على تنوعها الديني والطائفي والقومي عجزت اليوم عن حماية أقلياتها التي تعرضت للإبادة والتهجير بعد أن سيطرت عليها حركات التطرّف الديني والأنظمة الطائفية القمعية التي دمرت الرصيد الحضاري العميق لكبريات حواضر الشرق العربي.