محمد المختار الفال

 حال التوتر التي تعيشها المنطقة تضغط على «عصب العلاقات» العربية، وتعطي شبكات التواصل الاجتماعي وما فيها من شغب ومن فيها من أصوات معروفة ومجهولة، مناخاً فاسداً يضخّم الأشياء ويزيّف الحقائق ويختلق الأوهام ويصدق الإشاعات، حتى لتبدو غير قابلة للنفي.

ومثال حي على «استغلال» أهل هذه الغابة الإعلامية للظروف الراهنة، وتوظيفها، كل طرف بما يخدم أهدافه ومراميه، خبر زيارة وزير النفط المصري إلى إيران، وما قيل عن إبرام اتفاق لتزويد مصر بحاجتها من النفط. ومع أن الوزير نفى هذا الخبر لاحقاً الاثنين الماضي على هامش معرض ومؤتمر أبوظبي الدولي («الحياة» 7-11-2016)، إلا أن التعليقات والتعليلات والمناقشات استمرت بحثاً عن أدلة تباعد الرياض عن القاهرة، وأن المواقف المصرية تزيد الوضع من ضبابية، وأن هذه الخطوة ستعقّد العلاقة بين البلدين. والاهتمام بإشاعة زيارة وزير النفط المصري إلى إيران تأتي في سياق اهتمام الإعلام بالعلاقات السعودية - المصرية، بعد سلسلة من التصريحات والمواقف التي فهمت على أنها اختلاف وجهات النظر بين البلدين حول ما يجري في سورية والعراق والعلاقة مع إيران والصراع اليمني - اليمني، الذي تقف منه السعودية موقف المؤيد للشرعية الرافض تسليم اليمن لطهران.

وحرص إيران على استغلال ما يبثه الإعلام عن «ملابسات» العلاقات السعودية - المصرية مفهوم وغير مستغرب في إطار عداوتها للرياض، وسعيها الحثيث إلى زيادة تأثيرها في الساحة العربية بعد أن حققت نجاحاً غير منكور في العراق وسورية، وإصرارها على إضافة اليمن إلى قائمة أتباعها ووكلائها في الجسم العربي.. ومصر بالنسبة لإيران تعد «صيداً» ثميناً، وكسبها إلى جانبها يستحق ما يبذل فيه من جهد، ومن المؤكد أن إيران لا تطمع في «ابتلاع» مصر، كما فعلت بالعراق وتعمل على فعله في سورية، لكن يكفيها، في هذه المرحلة أن تنجح في «توسيع المسافة» بين الرياض والقاهرة، فهذا منجز مهم وعامل قوى نشاطها لإضعاف جهود السعودية في جمع كلمة العرب وتوحيد قدراتهم لمواجهة الأخطار التي تهدد أمنهم.

ودأبت السياسة الإيرانية على توظيف كل إمكاناتها لزيادة ضغطها على دول المنطقة العربية وإرباك وسائل تنسيقها، ومحاولة تشتيت مواقفها، حتى وإن أدى ذلك إلى إنفاق ثروات الشعب الإيراني على مشاريع تصدير الثورة وتسليح ميليشياتها والمجموعات العاملة تحت إمرتها من «الوكلاء العرب». وما نشاهده اليوم في الموصل وحلب هو الترجمة العملية لإصرار طهران على المضي في هذا الطريق. ومعروف أن سياسة إيران تجاه مصر تختلف، كلياً، عن سياستها في العراق وسورية، للعوامل الجغرافية والاختلافات المذهبية، وأقصى ما تتوقعه من مصر، في هذا التوقيت، هو إبعادها عن محور الرياض وخلط الأوراق في الملفات المختلف حولها بين الرياض وطهران.. وإصرارها على إشراك القاهرة وبغداد في لقاء لوزان، قبل أسابيع، غزل مكشوف لمصر، ورسالة واضحة في هذا السياق، الذي يريد أن يؤكد أن تباين وجهات النظر بين الرياض والقاهرة حول قضايا المنطقة تتسع مساحته وتتجذر أعماقه، وأن «المفارقة والقطيعة» بين البلدين باتت وشيكة، وأن «المنفعة» الوقتية هي التي تبقي على حسن العلاقات الظاهرية.. والمنطق يدعو إلى فهم الأهداف الإيرانية، وتفهم سعيها إلى تعميق الآثار المترتبة على اختلاف وجهات النظر بين الرياض والقاهرة حول بعض القضايا.

هذا مفهوم ومعروف، وبات مكشوفاً للجميع لكن، المطمئن، أن مصر تدرك حقيقة الأهداف الإيرانية، وتعرف أطماعها ومقاصدها «التكتيكية» و«الاستراتيجية»، ولن تنطلي عليها «خطابات الدعاية» التي تطلقها إيران في هذا الاتجاه، ولكن «التغابي» أحياناً يعد وسيلة لتحقيق الأهداف المزدوجة في المواقف المتناقضة.. وحال الاصطفافات والانحيازات في المنطقة واندفاع الأحداث إلى «حافة الهاوية» قد تدفع بعض اللاعبين إلى استغلال الفرص، ومن الخطر أن لا يفرقوا بين «التكتيك» والاستراتيجية». واختلاف وجهات النظر بين السعودية ومصر، حول بعض الملفات، التي لعب عليها إعلام الأصدقاء والأعداء و«المغفلين»، يخشى أن يوقع البعض في أخطاء عدم التفريق بين ما هو «آن زائل» وما هو «ثابت باقٍ»، فهذا الخلط يفسد نقاء الصورة وسلامة الرؤية، وقد يدفع في اتجاهات تتعارض مع المصالح العليا للدول. ومن الخطر والخطأ أن تغري الأحداث الساخنة البعض ليعطي القضايا الجزئية أبعاداً أكبر من حجمها وطبيعتها، مثل ما قيل عن اتجاه مصر إلى إيران لتعويض النفط السعودي المتوقف لأسباب تعاقدية بين شركة أرامكو والسلطات المصرية المختصة، فبحث مصر عن مصدر يزودها بحاجتها من الوقود لا يغضب أحداً ولا يزعج الرياض إذا جاء في سياقه الطبيعي، لكن غير المريح، وربما المزعج، هو أن تكون بواعث هذه الخطوة «إغاظة» السعودية، والتلويح بإمكان التوجه، في القضايا الجوهرية، غير وجهتها، هنا تخرج خطوة البحث عن مصدر للتزود بالنفط عن طبيعتها وسياقها ودواعيها، وتتحول من تحرك اقتصادي تجاري مشروع بين كل الدول، إلى «موقف سياسي» يدعم طهران ضد السعودية التي تمثل الموقف العربي الرافض للهيمنة الإيرانية.

وأعتقد أن تشابك خيوط الأحداث على الخريطة العربية، في هذا التوقيت، يستدعي قدراً كبيراً من الوعي والصبر والحكمة، بالقدر الذي يقتضي حداً عالياً من وضوح الرؤية والصراحة لمناقشة القضايا المشتركة وفصل الأهداف عن الوسائل، حتى يمكن الاتفاق على الخطوط والفواصل، وحتى لا يتورط البعض في أخطاء تضر بالقضايا المصيرية تحت وطأة لحظات الغضب أو القرف من تخلي البعض عن مسؤولياته.

والعلاقة السعودية المصرية في مركز الدائرة العربية، ولا تحتمل تعريضها للأخطار أو التشويش على أصالتها وضرورتها ودورها المحوري، بإعلام نزق يرتكب حماقات تفضح خواء أهله، قبل ما تكشف عيوبه ونوايا من يحركونه. وتقوية العلاقة السعودية المصرية وحمايتها من تدخلات أعداء البلدين «خيار استراتيجي» لصالح أمن واستقرار مجتمعاتهما، بل ومجتمعات المنطقة بأسرها، فلا يتهاون أحد في تعريض ثبات هذه العلاقة لظروف عابرة يمكن معالجتها في إطار المصالح المشتركة وتقدير المواقف. و«الأدوات الرخيصة» في الإعلام الغبي يحركها الذين يستغلون الأوضاع الاقتصادية والأمنية لدفع علاقة البلدين في الاتجاه الخاطئ، وهذا ما يوجب التصدي لمصادر الخطر بقدر كبير من المصارحة والوضوح.