يوسف مكي

ترامب لم يصل إلى السلطة قادما من الجيتو، بل هو نتاج المؤسسة الرأسمالية التي تقود الحكم بالولايات المتحدة، وهو صديق قديم لمعظم الساسة الذين تربعوا على السلطة

بخلاف كل التوقعات داخل الولايات المتحدة وخارجها، حصد دونالد ترامب غالبية أصوات الناخبين، وهزم غريمته في السباق الرئاسي هيلاري كلينتون وحقق النصر. ومنذ الإعلان عن فوزه، والتحليلات مستمرة عن أسباب التحول الدراماتيكي الذي أخذ مكانه في الثامن من نوفمبر. الكل يدلي بدلوه، لكن الأسباب الحقيقية لشقه طريقه إلى البيت الأبيض، تظل عرضة للتكهنات والتفسيرات. 
قيل في تفسير ذلك إن الأميركيين لم يعودوا يثقون بالساسة، وإنهم سئموا وعودهم، وإن هناك نموا صاعدا للتيارات الشعبية على مستوى القارة الأميركية، وإن ذلك يجري الآن أيضا بالقارة الأوروبية. ووصف البعض ذلك بأنه عودة للقومية الشعبية. وقال آخرون، إن ثمة تحول حقيقي من الساسة إلى القادة الشعبيين. 
وفسر آخرون هذا التحول بأنه نتاج تصاعد في المشاعر العدائية من قبل السكان البيض الذين يتجاوز تعدادهم 78% ضد الملونين والأقليات الأخرى. وتزامن ذلك مع وعود ترامب بمنع الهجرة غير الشرعية لبلاده، وبناء حائط يفصل بين المكسيك والولايات المتحدة -على غرار الحائط الذي بناه الصهاينة بين الأراضي التي تم اغتصابها عام 1948، وبين الأراضي الفلسطينية، التي تم احتلالها منذ عام 1967- للحيلولة دون التدفق غير الشرعي للمكسيكيين.
لكن الوقائع على الأرض لا تسند هذه القراءات. فترامب لم يصل إلى السلطة قادما من الجيتو، بل هو نتاج المؤسسة الرأسمالية التي تقود الحكم بالولايات المتحدة. وهو صديق قديم لمعظم الساسة الذين تربعوا على السلطة، عن الحزبين الجمهوري والديموقراطي. وقد لا نأت بجديد حين نشير إلى علاقة عائلية خاصة تربطه بالرئيس بيل كلينتون وزوجته هيلاري، التي تمكن من إلحاق الهزيمة بها. 
كما أن برنامجه الانتخابي -على صعيد الداخل- لا يختلف قيد أنملة عن برامج أقرانه من الرؤساء الجمهوريين السابقين. فهو كما هي عادة نظرائه من الحزب الجمهوري، يطالب بتخفيض الضرائب، بما يترتب على ذلك من تقليص البيروقراطية، وطرد عشرات الألوف من موظفي المؤسسة الفيدرالية من وظائفهم، وتقليص خدمات الضمان الاجتماعي، والتراجع عن برنامج الرئيس أوباما الصحي، وما إلى ذلك من مشاريع تصب جميعها في ترشيق مؤسسات الدولة، وإضعاف الطبقة المتوسطة، والانتصار لمبدأ آدم سميت المستند على تشجيع التنافس الاقتصادي، وحرية السوق. 
يتفق الجمهوريون أيضا مع ترامب في ضرورة سن قوانين تحد من الهجرة غير الشرعية للولايات المتحدة. وهم بالتأكيد يختلفون معه في استخدامه المفرط والفج للغة الكاوبوي، التي لا تتورع عن مهاجمة النساء، والحديث بصلافة عن خصومه. ولكن هذه قضايا تتعلق بمسلكه، وليست لها علاقة البتة ببرنامجه الانتخابي. 
يختلف الحزب الجمهوري مع ترامب في بعض تصريحاته المتعلقة بالسياسة الخارجية، لكنه في الصميم معه تجاه تصريحاته المتشددة بشأن الملف الإيراني. أما القول بأنه خرج على الساسة، ووصفه بالشعبوية، فيطرح أسئلة ملحة تتعلق بالفريق الذي سوف يعمل معه، وبعلاقته بالكونجرس الأميركي ومجلس الشيوخ تحديدا، وأيضا علاقته بمجموعات المصالح، وقوى الضغط السياسي والاقتصادي بكل تشعباتها. إذ من غير المتصور أن يقود ترامب أكبر وأغنى قوة دولية، من غير تفاهم شامل مع مؤسساتها الفاعلة على كل الصعد، وذلك ما يجعل الحديث عن ابتعاده عن المؤسسة الأميركية افتراء محضا.
لقد أكد ترامب في خطاب النصر الذي أدلاه إثر انتهاء عملية فرز الأصوات قراءتنا هذه. فالخطاب جاء تصالحيا ومعلنا نهاية مرحلة التنافس على المعقد الرئاسي، وبدء مرحلة جديدة من التعاون مع الجميع. إن ذلك يعني أن علينا أن نبحث عن أسباب أخرى، أسباب غير تلك التي ذكرت من قبل المحللين السياسيين، لتبرير انتصاره الساحق على غريمته، ولماذا فشلت كل التنبؤات بفوز كلينتون وهزيمة ترامب.
واقع الحال أن ترامب دخل في اللعبة بشكل ماهر جدا، طمأن الجميع، ومن ضمنهم السيدة كلينتون بفشله، ومن ضمن هؤلاء شخصيات بارزة في الحزب الجمهوري. أما قيادة الحزب الديمقراطي فقد وضعت كما يقول المثل الشعبي لدينا، أيديها في مياه باردة. وقد أفقدتها ثقتها المطلقة بالنصر عنصر التحسب والمبادرة، وخلقت حالة من الاستكانة.
هذا المشهد تكرر من قبل للرئيس جورج بوش الأب حين تنافس مع المرشح بيل كلينتون، القادم من أركانسا، الولاية التي لا تحمل ثقلا كبيرا في حسابات الساسة الأميركيين، دخل جورج بوش دورته الانتخابية الثانية محملا برصيد هائل من الانتصارات. فقد سقط الاتحاد السوفياتي ومعه انتهت الكتلة الاشتراكية، وانتهي حلف وارسو، وتربعت الولايات المتحدة بمفردها على عرش الهيمنة الدولية. وكان في بداية دورته الأولى قد احتل بنما واعتقل رئيسها نوريجا المتهم بتجارة المخدرات، ولا يزال يقبع في السجون الأميركية حتى يومنا هذا. وحين غزا الجيش العراقي دولة الكويت تمكن بوش من تشكيل تحالف دولي من ثلاثين دولة، أنهى الغزو العراقي للكويت. وعلى الصعيد الدولي قاد بوش مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، حيث جمع السوريين والأردنيين والفلسطينيين والإسرائيليين على طاولة مفاوضات واحدة.
هذا الرصيد الهائل يقابله منافس قادم من ولاية مغمورة، لا يملك السجل الحافل الذي يملكه رئيس مقيم بالبيت الأبيض، ومتربع على عرش الهيمنة العالمية. لكن هذا الشعور، كان شعور الطاووس، أفقده عنصر المثابرة والتحسب، واستثمر كلينتون بذكاء ودهاء وصبر نقطة ضعف غريمه، فحقق فوزا كاسحا ضده، طارحا برنامجا تفصيليا وواضحا، لم يتردد عن شرحه حتى لطلاب المدارس الابتدائية، فكان النصر حليفه. وستبقى نتيجة هذه الانتخابات موضوعا مستمرا وقائما لمناقشات ومطارحات، ذلك لأن نصر ترامب كان مفاجأة كاملة بكل المعايير.