رضوان السيد

تعددت في العقدين الأخيرين الاهتمامات بمشكلات الثقافة العربية المعاصرة. فقد برز الاهتمام باللغة العربية والترديات التي أصابتها لدى الأجيال الشابة. وقد قامت الدول العربية وإداراتها الثقافية بعدة مبادرات. وكانت لذلك نتائج إيجابية، وبخاصة ما جرى ويجري بدولة الإمارات. وهناك اهتمامٌ آخَرُ يتعلَّق بمشكلة القراءة بين الشبان والكهول. فالمقروء والمطبوع ضئيل مقارنةً بالدول الأُخرى غير العربية، والثقافات الأُخرى. والملخَّص أنّ العرب في سائر أجيالهم لا يقرؤون. وقد كان هناك من أعاد المشكلة إلى ظاهرتين أُخريين: الأُولى الأُمية المتفشية والتي ما تراجعت نِسَبُها في العقود الأخيرة. والثانية انتشار وسائل التواصل بشكل هائل بين الشباب والفتيان، وتضاؤل العودة إلى الكتاب الورقي، والصحيفة الورقية، حتى عندما يتعلق الأمر بالبرامج المدرسية.

وهذه المسائل جميعاً مهمة وتستحقُّ الاعتبار والمتابعة والمعالجة. لكن الأزمة في عمقها هي أزمةُ وعي وانتماء، بمعنى تضاؤل الإحساس بالانتماء إلى جماعة ثقافية ولغوية، وتضاؤل الإحساس بضرورات الالتزام بمسائل معينة تُعنى بها كل الأُمم والدول في الفكر والثقافة واللغة. فحتى أنصاف المتعلمين يعتزُّون بالرطانة بأي لغة غير اللغة العربية. والعامة والمتعلمون يميلون للهجرة ويسعَون إليها بشتى السُبُل والمسوِّغات. وقد كنتُ أتعزّى بأنه في زمن العولمة لا ينبغي أن نأسى لمشكلة الهجرة، باعتبار أن العالم تضامّتْ أجزاؤه، بحيث صارت هناك قرية عالمية. لكن الأمر تجاوز حدود ومتغيرات العولمة، إلى هجرة العامة أو الهجرة العامة التي لو أُتيحت لفقدت بعض البلدان نصف سكانها، من العامة والمتعلمين.

يعتبر معلِّقون سياسيون واستراتيجيون أن أزمة الهوية والانتماء هذه أسبابُها سياسية. ذلك أنّ تجربة الدولة الوطنية العربية فشلت، وبخاصة في بلدان الأنظمة الأمنية والعسكرية، بحيث ما عاد المواطنون العاديون يتحمسون للانتماءات الوطنية والقومية. فقد فشل تحرك عام 2011 في التغيير المدني، وسادت أمور أخرى: الأوضاع القديمة، والإسلاميات الهائجة، وهجوم الإقليميين والدوليين على تدمير البلدان والعمران والبشر، إمّا بحجة مكافحة الإرهاب أو من دون حجة!

إن الاضطراب السياسي والاجتماعي مشكلة كبرى، لكنه لا يعلل التضاؤل الثقافي العربي، وتردي الحالة إلى هذه الحدود. فقد قامت ثقافةٌ عربيةٌ حديثةٌ في القرن العشرين، بغض النظر عن الأوضاع السياسية التي ما كانت على ما يرام في المشرق العربي خصوصاً. لقد كان المثقفون العرب البارزون في الصفوف الثلاثة الأولى لا يتجاوز عددهم الخمسين. لكنهم كانوا ينتمون جميعاً إلى هذه الثقافة العربية الشاملة، ويشعرون بالانتماء العام، ويجترحون مشروعات كبرى لإنمائه أو تعديل مقولاته الكبرى أو تغييرها باتجاه التلاؤم مع عالم العصر وعصر العالم. وهؤلاء جميعاً يعرفون لغة عالمية أو أكثر. لكن كتبهم الرئيسية صدرت ونُشرت وفي عشرات الطبعات بالعربية. وجمهور قرائهم كان عربياً، حتى لو قُرئ أدبُهُم أو فكرهم في العالم. فأنا لا أتصور أن نجيب محفوظ أو طه حسين كان يمكن أن يكون أديباً عالمياً لو كتب بغير العربية. وسيقول بعض الناس: لكنْ ماذا عن كاتب ياسين أو أمين معلوف؟ أرى أنّ اختلافهما بسبب عروبتهما هو جزء كبيرٌ من شهرتهما ونجاحهما!

إن المشكلة فيما أرى تكمن في تضاؤل العروبة والعربية والعرب في الموازين العالمية الثقافية والعلمية والسياسية. وهو أمر يجعل شباننا قليلي الاعتزاز بانتمائهم بل يهربون منه، مما يجرّئُ الإقليميين والدوليين على محاولات التخريب والاستيلاء في ديارنا. فما دام أهل هذه الأرض، وهذه الثقافة، ليسوا حريصين عليهما، فلماذا يحرص الآخرون على مراعاة الحرمة، وعلى الاحترام لهذه الثقافة التي كانت عالمية؟

كيف يمكن تجديد العروبة وثقافتها في أوساط شابنا؟ وكيف يمكن بعث دوافع الدفاع عن الثقافة العربية المستنيرة، ودولة الحكم الصالح، باعتبارهما أمل المستقبل؟ هذه هي المسألة.

إنّ للأمر ركنين هما: ركن الثقافة المحتوية للانتماء العربي والجامعة له، والتي بدت بشائر واعدة لها في فروعها الإنسانية والعلوم البحتة والتطبيقية والتطلعات العالمية، ثم انتكست في العقود الأخيرة. والركن الثاني هو ركن الحكم الصالح والرشيد، والذي يحقّق الاستقرار والكفاية والحرية والحماية في المجتمعات والدول، بحيث تصبح ثقافة الانتماء العربي نتيجة طبيعية لازدهار إنسانية الإنسان وانتمائه.