هاني نسيره

تنظيم داعش يتراجع ميدانيًا وينحصر، لكنه ينكسر نظريًا وتندثر جاذبيتها الآيديولوجية كذلك، وهذا هو الجانب الأخطر لأنه يفض هالته ويعلن إفلاس خياراته وأطروحاته، وينفض المنبهرون من المقاتلين الأجانب والمتعاطفين معه من حولها. 

ملامح تراجع «داعش» الميداني واضحة، بضرب مركزه في العراق وسوريا، واستهداف شبكات اتصاله العالمية التي ترفده بالمقاتلين الأجانب وبالتمويل والموارد المالية، وكذلك شبكات الاتصال عبر استراتيجية المطرقة الصلبة التي استأصلت عددًا من القادة الفاعلين في التنظيم. لكن التنظيم لا يزال حيًا رغم تراجعاته، وتتبعه مجموعات في 25 بلدًا عبر مجموعات وخلايا أعلنت بيعته، ويسمى 24 ولاية تابعة له، تقع 16 منها في سوريا والعراق فقط، وهذا رغم أزماته التي انخفضت بها أعداد ضحايا الإرهاب في العالم معه بنسبة 10 في المائة حسب مؤشر الإرهاب الدولي الذي صدرت نتائجه يوم الأربعاء الماضي 16 نوفمبر (تشرين الثاني).
نهاية تنظيم داعش المتطرف الإرهابي ليست وشيكة، مع أن المؤشرات لتحرير مدينة الموصل من نير احتلاله بات وشيكًا. وهو رغم تراجعاته في مناطقه الأخرى سابقًا في ليبيا وفي العراق، ومحاصرة الرقّة عاصمة «خلافته» المزعومة بشمال وسط سوريا - التي تبدو الهدف القادم والصعب للحرب الدولية عليه -، فإن احتمالات تجدّده وتكيفه مع أزماته الجديدة قائمة. إذ سبق له أن خسر «دولة» مزعومة كان يسيطر عليها بين عامي 2006 و2008 وعاصمتها الأنبار، أسّستها «القاعدة» في غرب العراق، وقضت عليها «صحوات» سنية عمل نظام نوري المالكي للقضاء عليها فيما بعد!
يبدو المحكّ النظري الأخطر على عناصر التنظيم، خاصة بعد سقوط جاذبية رواياته عن «آخر الزمان» التي استدعاها سلفه «أبو مصعب الزرقاوي» في حديث «دابق» والمعركة الفاصلة لانتصار الحق على الباطل في تصورها. إذ سقطت «دابق» بسهولة في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي هذا العام في يد فصائل المعارضة السورية المشاركة في عملية «درع الفرات» بعد ساعات محدودة وحرب خاطفة. ومع سقوطها سقط جزء كبير من شرعيته، رغم محاولات قادة التنظيم وإعلامه التبرير والتسويغ لذلك بأنه قد يعودون إليها، أو قد تعقد هدنة، أو أن المقصود غزوها بريًا من قبل قوات غير مسلمة، تبريرات لم تلغ ضعف الثقة لديهم ولم تنف ما بشّروا به مقاتليهم دائمًا.
غير أنه من المستبعد أن يكون تراجع «داعش» واندثاره فرصة لعودة أصله في تنظيم «القاعدة» كما تقول الفرضية التي نعرض لأسانيدها ومبرراتها هنا، وذلك لأن متتابعة الغلو الراديكالي من قديم، لا تعرف الاتصال ولا القفز، بل تعرف الانفصال والمفاصلة. فالتنظيم الذي ينهزم ويسقط ويستأصل لن يعود، والتنظيم الذي يتراجع كليًا ويفقد سيطرته على فروعه كذلك لن يعود للصدارة. ولا يعرف الخطاب «الجهادي» نفسه قيم الاعتذار والسماح والنقد الذاتي والإنصاف بعد التخطئة وما شابه.. من أمور مدنية ومعتدلة لا تعرفها صلابته وغيريته. وهذه لا تتواضع لتقديم من تؤخرهم أو تتهمهم فيما بعد، فضلاً عن شخصية الظواهري نفسه الجدلية والمختلف عليها، التي لا تملك كاريزمية مؤسس «القاعدة» الراحل أسامة بن لادن ولا تأثيره. ومن ثم، تتضح أزمة الرمز والقيادة واضحة فيها رغم محاولة ترويج لابن الأخير أو لغيره. بل نرى أن خزائن النقد «الداعشي» الذي وصف الظواهري بأنه رجل فقد ظله، ورمت «القاعدة» بالكذب مرارا، خاصة بعد إعلان مقتل الملا عمر بسنة! ستظل في ذاكرة الراديكاليين ليبدأ فصل جديد مختلف أو هدنة جديدة مختلفة.
وسنعرض فيما يلي للفرضية، وأسسها السبعة ومناقشة أولية معها.
فرضية عودة «القاعدة» بعد سقوط «داعش»
طرحت بعض التقارير الغربية خلال الأسابيع القليلة الماضية احتمال عودة «القاعدة» حال تقهقر «داعش»، منها التقرير الأسبوعي لمركز ستراتفور الأميركي الصادر في 3 نوفمبر الحالي، كما طرحه في أغسطس (آب) الماضي صمويل ماريرو، المسؤول التنفيذي لمركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الاستراتيجية التابع لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون). إذ رجحا بدرجة كبيرة «عودة القاعدة حال تقهقر داعش» ونشره موقع مركز المستقبل في أبوظبي في 30 أكتوبر الماضي، والتقت بشكل كبير مؤشرات التقرير كما سنعرض هنا:

مؤشرات سبعة لاحتمالات عودة «القاعدة»
اتفق التقريران المشار إليهما على حقيقة التراجع، وفق ما يتحقق على الأرض، وتصريحات القائد العسكري الأميركي، الجنرال شون ماكفرلاند، إن قوة «داعش» تآكلت بفضل الحملات العسكرية التي تستهدف التنظيم، مقدرًا أعداد مقاتليه في الوقت الحالي بحدود 20 ألف مقاتل، بعدما قتل منه ما لا يقل عن 45 ألف مقاتل حتى أغسطس الماضي. وهو ما يؤكده كذلك خسارة عدد من أبرز قيادييه وفق استراتيجية المطرقة الصلبة التي تستهدف قياداته الفاعلة والمؤثرة وشبكات اتصاله، وتراجع أعداد مقاتليه، وتشي به خطابات قادة تنظيم داعش أنفسهم، مرجحين عودة «القاعدة» لصدارة وقيادة «الجهاد العالمي» حال تقهقر «داعش» على سبعة من المؤشرات، كما يلي:
1 - كون «القاعدة» أكثر حذرًا: حسب تقرير ستراتفور في 3 نوفمبر الحالي فإن الخسارة الوشيكة لمدينة الموصل «نواة تنظيم داعش، ستؤدي إلى تعزيز أهمية تنظيم القاعدة»، مؤكدًا أن «النمط الجهادي الجديد لـ(داعش) كان مغايرًا لمقاربة تنظيم القاعدة الأكثر حذرًا. مع ذلك، جذب تنظيم داعش الكثير من الجهاديين الشباب. وفي ذروة نجاحه وتحقيقه الانتصار الميداني تلو الآخر، بدت ادعاءات تنظيم داعش بأنه مؤيَّد من عند الله صحيحة وطرح نفسه كقوة عنيدة تخطط لتأسيس مجتمع إسلامي طوباوي. وعلى نحو تدريجي، تعزز إيمان مؤيدي داعش بأنّهم كانوا يساهمون في تحقيق نبوءة مقدسة ولكنها سقطت في النهاية»، مما يعطي فرصة من جديد للقاعدة حسب التقرير.
2 - بقاء «داعش» بشكل مختلف: أكد التقرير أن «داعش» لن ينتهي ويزول تمامًا، بل سيظل يشكل خطرا وجزءا من مشهد الراديكالية عالميًا ولكن دون قيادته، كما أكدت تجربته وانهيار عام 2008. إذ استطاع العودة والتكيف مع أزمته وإعادة إنتاج نفسه وقياداته وعملياته من جديد بشكل أكثر خطورة. وهذا ما أكد عليه ماريرو، بالخصوص، واستدعى ماريرو خطاب المتحدث باسم التنظيم الراحل «أبو محمد العدناني» في 22 مايو (أيار) 2016 حين قال: «هل سننهزم إن خسرنا الموصل أو سرت أم الرقة أو جميع المدن وعدنا كما كنا؟».. مذكرًا بأيام التي كان فيها التنظيم مطاردًا في الصحارى والجبال، وكيف نجح أفراده في العودة من جديد، داعيا عناصره حينها وجميع مناصري التنظيم إلى استهداف الدول الأوروبية والولايات المتحدة، اعتبارًا من بداية شهر رمضان، مؤكدًا أن لا استثناء لمدني أو عسكري في المناطق المستهدفة.
3 - «داعش» تتراجع عند نفوذ «القاعدة»: رأى التقريران (ستراتفور وماريرو) أن المجموعات التابعة لـ«داعش» صارت تتراجع حيث يوحد نفوذ القاعدة، وهو ما يمكن رصده بسهولة في أفغانستان وباكستان حيث تقع مناطق نفوذ قيادة «القاعدة» المركزية.
4 - طبيعة «القاعدة» الأكثر مرونة: «القاعدة» أكثر مرونة من «داعش»، وأقل رعونة في عملياتها، مما يجعلها أكثر تجددا وتكيفا واستعدادا للاستمرار، حسب ماريرو في تقريره المذكور، وأكثر معرفة بدول ومجتمعات المنطقة وثغرات السياسة الغربية، ولقد استطاع الحفاظ على نفسه بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، كما كان أكثر قدرة على التنسيق مع الفصائل الراديكالية الأخرى في أفغانستان كـ«طالبان» أو في العراق أو في سوريا على العكس من «داعش».
5 - بيعات «داعش» وانشقاق «النصرة»: يرى ماريرو أن احتمال تفكك شبكة «داعش» وخلع بيعته من قبل تنظيمات بايعته في أفريقيا مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب الصومالية وغيرها وارد جدا، مع تراجع تمويلها وقدراتها المالية واللوجيستية، وهذا، خصوصًا أنه - أي «داعش» - لم يقدم شيئا لهذه التنظيمات الباحثة عن الدعم. ومن جهة ثانية، أشار التقريران الأميركيان إلى انفصال «جبهة النصرة» عن «القاعدة» كدليل مهم، أبرز تغيير «النصرة» اسمها إلى جبهة «فتح الشام» وكيف كان هذا تنسيقًا ومؤشر مرونة وواقعية من «النصرة» ابتداء سرعان ما باركته «القاعدة» فيما بعد، ما يؤكد قدرة «القاعدة» على البقاء والتكيف بعكس «داعش» الذي لا يتمتع بالمرونة والقدرة على التكيف.
6 - خبرة «القاعدة» في التعاطي مع المجتمعات والسكان المحليين:
واقع أن «القاعدة» أكثر عقلانية ومرونة من «داعش» كان واضحًا في التعاطي مع الآخرين، ولا سيما قوى المعارضة في سوريا. ذلك أن خبرة «القاعدة» أفضل في التعاطي مع السكان المحليين، وسبقت أن انتقدت القيادة المركزية لـ«القاعدة» فرع «القاعدة في العراق» بقيادة «أبو مصعب الزرقاوي» حينئذ لاستهدافه المزارات الشيعية وقتله على الهوية الطائفية وما شابه، في تسجيلات علنية، ظهرت في تسجيل مشهور للظواهري في أكتوبر 2005 وفي وثائق بن لادن وأحاديثه حينئذ. وهذا أيضًا يعكس قدرة على تفهم المجتمعات والسكان المحليين تفوق بمراحل «داعش»، حسب التقريرين.
7 - عودة أولوية تقديم العدو البعيد:
تركيز «الزرقاوي» وخلفه «البغدادي» على مقولة «الدولة» وتأسيس «الخلافة» المزعومة واستهداف العدو القريب السياسي والطائفي والمختلف في ممارسات «داعش»، كان انقلابًا على تصور «القاعدة» وفكرة «عولمة الجهاد» في التركيز على العدو البعيد قبل العدو القريب. ولكن مع هزائم فكرة «الدولة» وانحسارها بمشاركة «العدوين الحليفين» القريب والبعيد قد تعود شرعية لطرح وخيار «القاعدة» الاستراتيجي في تقديم العدو البعيد على العدو القريب من جديد.

مناقشة أولية للفرضية
بعد عرضنا للأسس التي قامت عليها هذه الفرضية نرى أنه من الصعب القبول بها، لأسباب تتعلق أيضا بتنظيم «القاعدة» الذي فقد كاريزمية بن لادن والإجماع عليه في حقبة الظواهري، كما فقد كل مراكز وقادة اتصاله المهمة بين عامي 2008 و2011، وثبتت هشاشة تأثيره في جماعات انشقت عليه كـ«داعش» نفسها، أو تراجعت عن أطروحاتها في وقت سابق كـ«الجماعة المقاتلة الليبية» عام 2009 أو انقلبت على بيعته نحو بيعة أخرى.
ثم أن تاريخ التنظيمات الراديكالية وظاهرتها يعرف متتابعة الغلو، وليس منحنى الاعتدال، فلا يعود ارتكاسيًا، بل يعرف القطع والمفاصلة، لتنتج كل حقبة ما يناسبها. لكن درس «داعش» وخبرة سنتين كانتا الأقصى عالميًا في تاريخ الإرهاب العالمي ستعقبها لحظة مراجعة طويلة لخيار العنف المسلح نفسه، وخيار تأسيس إمارة أو دولة دينية آمن به «داعش» كما لا تزال تصر عليه «طالبان أفغانستان» وتدعمها «القاعدة» فيه.