محمد الرميحي 

 على مدى يومين، حضرت اللقاء الخامس لـ«صير بني ياس»، الندوة الفكرية التي تنظمها وزارة الخارجية الإماراتية مع «جثم هوس»، المؤسسة البحثية البريطانية، والتي نوقشت فيها قضايا الساعة. ولأن الحضور والمناقشة يتم بناء على اتفاق «ألا ينسب لقائل قول»، فإن ما سوف يأتي هو قراءتي الشخصية لسير بعض المناقشات التي أعتبرها من أهم منابر اللقاءات الفكرية في منطقتنا، وما يلي هو ما يمكن أن يسمى انطباعاتي عن الموضوعات الأكثر أهمية من وجهة نظري، وهي ثلاثة:
أولاً: تأثير نتائج الانتخابات الأميركية على سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، وثانيًا: العلاقة بإيران، وثالثًا: استشراف ما بعد الحروب القائمة في منطقتنا.
أولاً: حول توقعات سياسة السيد ترامب تجاه الشرق الأوسط المقبلة، توزعت الآراء على ثلاثة توجهات على الأقل، منها من رأى «انتظروا لنرى» ما يمكن أن تشير إليه تعييناته في المناصب، وتوجهاتهم العامة، وما يصدر عنهم من تصريحات، وما يقوم به من إجراءات، ومنها «احذروا» فإن التسونامي آتٍ في شكل تحالفات جديدة مختلفة عما سبقها، ومنها «أبشروا» فهو ضد كل ما تشتكون منه كعرب من سياسة الإدارة المغادرة! وهي تتلخص بين انتظروا أو احذروا أو أبشروا! السياسة السابقة في البيت الأبيض (السيد أوباما) تجاه المنطقة كانت ردة فعل على حروب أميركية كبرى مكلفة وفاشلة في الشرق الأوسط، وملخصها «ليس هناك ما تستطيع الولايات المتحدة أن تفعله في الشرق الأوسط، وما نفعله ليس مهمًا)! لذلك تُركت التفاعلات في المنطقة دون تدخل واضح أو حاسم من الدولة الكبرى على الصعيدين السياسي والعسكري. أما السيد ترامب، فهناك اليوم معركة محتدمة على (عقله) من أجل كسبه إلى هذا التوجه أو ذاك، هو يشبه ولا يشبه السيد رونالد ريغان؛ كلاهما يحاول إبقاء أميركا عظيمة!! رونالد حاول ذلك بإشراك العالم، ودونالد يحاول ذلك بمعزل عن العالم. ولأنه لا يقرأ، ولا يفهم في السياسة الخارجية، وهو من رؤساء الجمهورية الأميركية النوادر الذين لم يعملوا في منصب حكومي (مدني أو عسكري) من قبل. هو رجل صفقات (بزنس)، وبصفته تلك، يمكن لرجل الصفقات أن ينجح وإن فشل يستطيع أن ينسحب! في السياسة لا مكان للتجربة والخطأ، من يدخل في علاقة سياسية لا ينسحب عنها دون آثار سلبية كبرى! قيل أيضًا إنه كان في أثناء الحملة الانتخابية «لطيفًا» مع السيد فلاديمير بوتين لأن الأخير كان لطيفًا معه؛ على الساسة في الشرق الأوسط أن يكونوا لطفاء مع السيد ترامب، ويتحدثوا عن شخصه بإيجابية، وهو سوف يبادلهم ذلك الموقف! وقد بدا لي أن ذلك التحليل الأخير يميل إلى التبسيط، وربما (الخفة)، وكأنه رئيس من العالم الثالث!
أما آخرون فقد ذهبوا إلى القول: إن عليكم أن تحصنوا أنفسكم، فالضحايا سوف يكثرون في الفترة المقبلة، ولعل بعضهم سيكون من مسلمي وعرب أميركا أولاً، فالرجل ومن معه من الجمهوريين يحملون أجندة (جاكسونية) نسبة إلى الرئيس الأميركي السابع أندرو جاكسون، في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر، في استخدام سياسة خارجية متشددة وميالة للمواجهة من أجل الدفاع عن مصالح أميركا الخارجية، ومشككة في المؤسسات الدولية والقانون الدولي! من هنا، فليس غريبًا قول السيد ترامب في أكثر من مناسبة في أثناء الحملة الانتخابية على (الحلفاء أن يدفعوا) ثمن حمايتهم! وعلى الشركاء الاقتصاديين أن يعترفوا بأهمية الاقتصاد الأميركي أولاً!
تلك كانت سياسة الإدارة السابقة، ولكنها نفذت بشكل مبطن. الآن، سوف تكون على العلن لمن يريد أن يسمع! على مقلب آخر، فإن ترامب له مواقف مناوئة ضد الإرهاب، وهذا سوف يأخذه إلى مناطق الصراع، سواء في العراق أو سوريا أو ليبيا أو اليمن (المناطق الملتهبة)، وقد بنى موقفه في السابق على (تخاذل) الإدارة السابقة في تجفيف منابع الإرهاب، فإن (أردت قتل البعوض عليك أن تجفف المستنقعات)! المشكلة هي أي مستنقعات يمكن أن يعنيها السيد ترامب! ذلك ربما يأخذه إلى التعاون مع السيد فلاديمير بوتين في مناطق الصراع، لأن الفشل في محاربة الإرهاب، كما ترى تلك المدرسة، يتمثل في عدم التنسيق الفعال مع الروس في المناطق الساخنة، وهو أمر قد يسير بالسياسة الأميركية الجديدة إلى تحالف أوثق مع روسيا الاتحادية بثمن سياسي تحدده الحكومة الروسية، بل قد يصل الوضع إلى «سايكس بيكو جديد»، بدلاً من الدول الثلاث التي وقعت عليه تاريخيًا، إلى اثنتين فقط، أميركا وروسيا، هدفه تقسيم «كعكة الشرق الأوسط»!
ثانيًا: في الموضوع الإيراني بعد الاتفاق النووي، يرى البعض أن «تمزيق الاتفاق»، كما نادى ترامب في حملته، غير عملي. وحقيقة الأمر أن ذلك الاتفاق في كثير منه هو إرضاء لإيران. لقد دُعي أهل الخليج للانضمام إلى المحادثات في بدئها، على قاعدة أن يكونوا شهود اتفاق نووي، وليس اتفاقًا عامًا لردع التدخل الواسع لإيران في المنطقة، فامتنعت دول الخليج عن أن تكون «شاهد زور»، وطلبت من الجانب الأميركي ألا تناقش قضايا المنطقة في غيابهم، والإدارة الأميركية قررت أن تأخذ جانب «دعوناكم فلم تلبوا»! وتشيع تلك الفكرة الخطأ، ولكن الدعوة كانت مشروطة بشروط إيرانية، أن يحضروا ويصمتوا، وكان ذلك مرفوضًا. نموذج الاتفاق الإيراني مع الدول الخمس (أميركا على رأسهم) هو نموذج يؤخر (البلاء)، ولا يعالجه في الأصل، وهو نموذج لا بد أن بلادًا أخرى سوف تطالب به، أي نستعد إلى يوم القنبلة الكبرى علميًا، ونؤجل إنتاجها لبضع سنين! وهو نموذج يُطلق سباقًا نوويًا يعرض السلم العالمي للخطر! في مقلب آخر، قيل إن الاتفاق مع إيران هو الممكن، لأن الخيار الآخر مكلف وغير مجدٍ، أي ضرب المنشآت النووية الإيرانية بالسلاح، لأنك لا تستطيع «ضرب المعرفة العلمية بالقنابل»! يرى آخرون أن الاتفاق في شكله الحالي سوف يمزق عاجلاً أو آجلاً، بسبب سياسات إيران من جهة، والسياسة الأميركية من جهة أخرى على المديين المتوسط والطويل؛ سيكون هناك يوم طويل للسيد ترامب في هذا الملف! يذهب البعض ناصحًا أنه من الذكاء أن يتعامل الإيرانيون مع البيت الأبيض باحترام! قد يكون الرأي الأخير هو (التمني)، فحتى لو خفت شعارات «الموت لأميركا والموت لإسرائيل» في شوارع طهران، فهي عالية في شعارات الحوثي في اليمن وحزب الله في بيروت! وهي أيضًا قد شُربت للشعوب الإيرانية على مدى عقود!
ثالثًا: ماذا بعد الحروب في المنطقة؟ هناك تصور عام أن الحروب القائمة (الأهلية والبينية) لا حلول لها في الأفق، فثقافة السلام ليس لها موقع بعد، على الأقل في المدى المنظور، بل قد تتعقد وتتطور الأوضاع إلى الأسوأ، بتطور المزاج العالمي الذي ينحو نحو (القومية المغلظة) في كل من أوروبا والولايات المتحدة وروسيا، الثلاث ركائز للسلم أو الحرب في العالم، وهي قوميات لا تعترف إلا بنفسها ومصالحها، والتحالفات المقبلة سوف تترك الإقليم في مهب الريح، العربي والخليجي على السواء، الدرس الأهم هو (تنظيم البيت بالجدية الكافية وبالمسؤولية الكافية)، وهو الخيار المتاح والأفضل اليوم.

آخر الكلام:
لن نخرج من أزمتنا إلا بفكر يجاهد لبلوغ الحقيقة وينزه نفسه عن الانحياز!