عبدالرحمن مرشود

هناك من العاملين في حقل الفكر والمحسوبين على الثقافة من يصدح بخطابات بروكرستية، فتراه يحمل نموذجه الذي لا يقبل المراجعة "رغم تطاول الزمان" فضلا عن إعادة التشكيل

تتحدث الأسطورة الإغريقية عن "بروكرست"، ذلك الشخص الذي كان يستدرج ضيوفه ويعرض عليهم المبيت في منزله، والنوم على سرير خاص أعدّه للضيوف. ولكنّ سريره ليس كأيّ سرير! فالمؤسف أن عدم تناسب طول الضيف مع السرير أمرٌ يزعج بروكرست كثيرا، ولذلك فإنه يبادر دائما لحلّ تلك المشكلة. 
فإذا قصُر السرير عن طول الضيف قام بقطع أرجله بالمقدار الكافي ليلائم طول السرير. أما إذا قصُر طول الضيف عن طول السرير، فالحل عنده هو مطّ جسده بكل آلة ممكنة للوصول إلى التناسب المطلوب.
إذن، فسرير بروكرست غير قابل للاستغناء أو الاستبدال أو حتى التعديل، بل على الضيوف أن يتشكلوا مع أبعاده المفروضة قسرا، مهما كلفهم ذلك.
تداولت شبكات التواصل مؤخرا تسجيلا قديما يظهر فيه الإعلامي الكبير سليمان العيسى "رحمه الله" مع أحد المسؤولين في إدارة الأحوال المدنيّة. 
يتساءل العيسى عن إمكانية تصغير حجم "البطاقة العائلية" بحيث يسهل حملها في الجيب عند التنقل، فيرد ذلك المسؤول بإجابة ظريفة مقتضاها، أن على المواطنين التعود على تفصيل جيوب ملابسهم بأحجام أكبر، نظرا لأهمية "البطاقة العائلية" كوثيقة أمنية لا يمكن العبث بأبعادها. 
لا أعرف سرّ بعث هذا التسجيل القديم إلى الوجود من جديد، ولكني أرى فيه تمثيلا مباشرا للعقلية "البروكرستية" التي كانت وما زالت متنفذة في تنظيماتنا الإدارية.
بالإمكان تبين العقلية البروكرستية ذاتها على سبيل المثال، في تصريح وزير العمل الأخير المطالب بخفض القبول الجامعي إلى 50% من مخرجات الثانوية العامة، وتبرير ذلك باحتياج سوق العمل. فبدلا من توسعة سوق العمل وابتكار وسائل لاستقطاب العوائد المالية من الخارج بشكل مستقل عن عوائد النفط، صار الحل هو قص أرجل المعرفة لتتناسب مع أبعاد هذا السوق الضيق! 
فالأصل، هو إنشاء السوق القادر على استقطاب كوادره تلقائيا، وليس الانصراف إلى حريات الأفراد وحجب الخيارات عنهم "بما في ذلك الخيارات غير الوظيفية"، لقسرهم على المتواضع من الفرص. ولكن يبدو أن إعادة تشكيل السرير ليس واردا في ذهن "المضيف الكريم".
من مظاهر "البروكرستية" التي تجلت لي أيضا هذا الأسبوع، قصة حزينة حدثت لأحد معارفي، إذ سبق أن ابتُلي بمرض باطني مؤلم، فوصف له أحد الرقاة دواءً شعبيا مما يتم تداوله في تلك الأوساط تحت بعض العناوين الدينية. 
ولكن، بعد أن انتكست حالته دون حدوث ما كان يرجو من ذلك الدواء، عاد إلى من وصفه له شاكيا، فما كان من ذلك الراقي "من الرقية وليس الرقيّ" إلّا التذرّع بأن من تناوله لم يكن على المستوى الإيماني الكافي لحصول الجدوى من الدواء. هكذا دون أي احتمالية واردة لمراجعة صحة وصفته أو صوابيتها!
لا يمكن الحديث عن سرير بروكرست دون التطرق لأصحاب الرؤى الأيديولوجية، فالمؤدلجون بشكل عام بروكرستيون من حيث الأصل، وكثيرا ما يتجلى ذلك عند ملاحظة إخراجهم للأدوات ذاتها لدى التعامل مع أي حدث مستجد، وعند تكرارهم الأحكام نفسها دون مراعاة لاختلاف البيئة أو انقلاب الزمان.
هناك من العاملين في حقل الفكر والمحسوبين على الثقافة من يصدح بخطابات بروكرستية أيضا، حيث يندر أن تقرأ لبعضهم مكتوبا أو تسمع له حديثا دون أن يلوح لك السرير الفكري ذاته. 
فتراه حاملا نموذجه الذي لا يقبل المراجعة "رغم تطاول الزمان"، فضلا عن إعادة التشكيل. وبالإمكان تبين هذا النمط من إجاباته السريعة، وتكراره بعد كل اعتراض جادّ لعبارة "وإن يكن" أو أي عبارة أخرى من أخواتها.
كلٌ منا يحمل في رأسه على نحوٍ مّا شيئاً من سرير بروكرست، فتوهُّم الخلل في أطوال الآخرين أيسر من جهد مراجعة أبعاد رؤانا وأفكارنا. 
تكون تداعيات وجود هذا السرير في رؤوسنا أخطر ما تكون عند تمكنّه منّا ونحن في موقع سلطة تتيح لنا قصّ أرجل البشر، أو مطّ أجسادهم لتلائم أطوالهم حجم سريرنا وأبعاده.
ربما لذلك من الواجب علينا كبشر، فحص محتويات جماجمنا باستمرار قبل أن نصوّب قذائف السخط نحو جماجم الآخرين.