محمد آل الشيخ 

هناك كثير من المكاتبات والخطابات والمخطوطات في عهد المؤسس الملك عبد العزيز - رحمه الله - ما زالت لم تر النور؛ وما نُشر عنها نزر يسير، لا يطفئ الضمأ، ولا يتواءم مع الجهود الوحدوية الجبارة، لهذا الرجل العظيم، منذ أن فتح الرياض، ثم توالت الفتوحات، إلى أن أثمرت جهوده منقطعة النظير بإعلان قيام المملكة كما هي عليه الآن؛ وبعد الإعلان عن قيامها، كان - أيضا - هناك جهود إدارية وسياسية، وعلاقات دولية، توالت، حتى وافاه الأجل، وانتقل إلى الرفيق الأعلى.

هذه الفترة التأسيسية تم حفظ وثائقها بطريقة - للأسف - بدائية، لا تتناسب مع أهميتها الثقافية؛ فلم تؤرشف، ولم تحقق، ولم تنشر، رغم أنها ثروة ثقافية لا تقدر بثمن، وغنية بأحداثها التاريخية، والاجتماعية، وكذلك الاقتصادية والسياسية. ولا أجد - بصراحة - سببا يبرر إهمالها، رغم أن الباحثين في شتى المجالات، سيجدون فيها حتما من المعلومات والمؤشرات والدلالات وما بين السطور، ما يُثري تاريخ بلادنا، الأمر الذي يجعل عرضها بعلمية وأمانة، خاصة للأجيال القادمة، من أوجب الواجبات علينا.

ومعروف أن الملك المؤسس كان يُباشر بنفسه (إملاء) الخطابات والتوجيهات لأرجاء المملكة، بلغته، ولا يقبل لأحد أن يُغير في مضامينها أو أسلوبها؛ وحينما أتت (البرقية) اتّخذها وسيلة طيّعة، سرعت إرسال التوجيهات الإدارية لأمراء المناطق ولم يكترث بمن حرموها ولم يلتفت إليهم، فساهمت في تجذير وتكريس لُحمة وترابط هذه الدولة المركزية والفتية المترامية الأطرف.

نشر هذه الوثائق، وفهرستها، وجعلها في متناول الباحثين، داخل المملكة وخارجها، سيمكن الأجيال الحالية والمستقبلية، وبالتفاصيل، بالاطلاع على كيف حقق هذا العبقري الفذ هذا الكيان الكبير، وكيف أداره في بدايات التأسيس، وكيف تعامل أولا مع معارك الوحدة، وبعدها كيف تولاه بالرعاية والمتابعة وعيون ساهرة لا تعرف التثاؤب، حتى أصبح كيانا شامخا، عظيما، يكاد أن يلامس شموخه السحاب.

كما أن هذه الوثائق لا تحتوي على مجرد تاريخ محض، بل تحتوي - أيضا - على سجلات حافلة بتفاصيل أبعاد أنثروبولوجية، يستطيع الباحثون وطلبة العلم، كل في مجاله، أن يستقوا من معينها كثيرا من الحقائق والمؤشرات، لفهم شخصية الملك عبدالعزيز، كمؤسس عظيم، وكذلك مواطنوه، في بواكير تأسيس (العقد الاجتماعي) للمملكة، والذي سار عليه أبناؤه من بعده.

صحيح أن هناك كثيرا من الكتب عن تاريخ المؤسس، تملأ رفوف المكتبات، إلا أن ما أعنيه هنا ليس تاريخا سرديا، وإنما تأسيس أصول وشواهد موثقة ومحايدة، لتمد المؤرخين الحقيقة كما هي، ويُترك للباحثين الاطلاع عليها، ودراسة أبعادها في كل المجالات؛ بحيث تكون مدونات موثقة عن جهود التأسيس، وكيف تعامل مع الظروف، وما هي التحديات التي واجهها، وأسلوبه في التغلب عليها، وكيف خلف لنا هذا الوطن الآمن المستقر، الذي نعيش في كنفه آمنين مطمأنين.

ولن أضيف جديدا لو قلت إن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان - حفظه الله - هو واحد ممن اعتنوا بتاريخ هذه البلاد واهتم به؛ فضلا عن شغفه بالثقافة والتاريخ وقراءته، فهذه إحدى سجاياه المشهورة والمعروفة عنه منذ نعومة أظفاره، وكلنا أمل أن تتحقق هذه الأمنية الوطنية الغالية؛ فتاريخنا، وبالذات ما يتعلق بوثائق التأسيس تحتاج بالفعل إلى أن يكلف - حفظه الله - مجموعة من الأكاديميين المتخصصين بالعمل على إنجازها، حتى نرى ثمارها يانعة وفي متناول الجميع.

إلى اللقاء.