محمد علي فرحات

قتلت قوات خاصة تركية مولود ميرد ألطنطاش بعد دقائق من إطلاقه النار في أنقرة على السفير الروسي أندريه كارلوف، الذي تشيّعه موسكو اليوم بحضور الرئيس فلاديمير بوتين، وسخر وزير الخارجية الأميركي جون كيري من اتهامات أنقرة بتورُّط واشنطن في الجريمة من خلال رجل الدين التركي فتح الله غولن. الغريب أن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أبلغ كيري هاتفياً بالاتهام، قائلاً إن موسكو تشاركها ذلك، لكن الكرملين أعلن بعد ساعات من المكالمة الهاتفية أن من المبكر جداً تحديد الجهة المخططة للاغتيال.

هل تكون مجموعة التحقيق الروسية- التركية استثناءً، قياساً على أن أنقرة لم تُصدر أي نتائج عن تحقيقات أجرتها في جرائم إرهابية في أنقرة وإسطنبول وأماكن أخرى؟ كل ما في الأمر أن الاتهام كان يوجّه، قبل جفاف دم الضحايا، إلى حزب العمال الكردستاني أو إلى جماعة فتح الله غولن. الارتباك ليس نتيجة عجز في أجهزة التحقيق الذي قد يحصل في جريمة واحدة، ويستحيل أن يحصل في جرائم عدة أطاحت الأمن وأضرّت الاقتصاد وأساءت إلى صورة تركيا في المنطقة والعالم كبلد مستقر.

القاتل البالغ من العمر 22 عاماً أوضح في الصرخات التي أطلقها أثناء الجريمة أنه متطرّف يتبنّى مقولات «القاعدة» حرفياً، وكان على الحكومة التركية أن لا تورّط نفسها بزعم انتسابه إلى جماعة غولن، خصوصاً أن الجماعة التي تشكّل تحدّياً يومياً لشريكها السابق «حزب العدالة والتنمية» وزعيمه رجب طيب أردوغان، معروفة بحسن تنظيمها وبابتعادها من العنف وانخراطها في تطوير التعليم والاقتصاد. لقد تحوّل إغفال الحكومة التركية نتائج التحقيق في عمليات إرهابية سابقة إلى ما يشبه الفضيحة: لماذا تتفادى أنقرة اتهام «القاعدة»، حتى وهي تنسّق مع موسكو وطهران في الملف السوري الساخن الذي تحتلّ فيه «جبهة النصرة» أو أيّ من الأسماء المستعارة لـ «القاعدة» موقعاً بارزاً؟

وتثبت الضربات التي يتلقاها الجيش التركي والعسكريون السوريون المعارضون الذين يقودهم لاجتياح مدينة الباب، أن أنقرة صارت عاجزة عن اختراق «داعش» استخبارياً، ما يعني أنه عدوّها وهي عدوّته، أما في حال «القاعدة» فيختلف الأمر، لكن العلاقة هنا مرشّحة للتغير في إطار ما يروى عن استدارة سياسية تقتضيها مصالح تركيا أو نظامها الحاكم.

الاستدارة التركية صعبة، وربما مؤلمة، وربما مهلكة، لكونها أيديولوجية وليست سياسية. إنها معضلة رجب طيب أردوغان الذي يستند إلى النقيضين، العثمانية الإسلامية والقومية العلمانية، لدعم حكمه الطامح إلى حضور رئيسي في الإسلام القريب (العرب) وفي العلمانية القريبة (أوروبا). وتتقدم الأزمة السورية باعتبارها التجربة الرئيسية، بل الحاسمة، لأردوغان في إرساء الحكم التركي على أسس صلبة ومستدامة.

تعامل أردوغان مع الأزمة السورية أيديولوجياً، بدءاً من الصداقة المفتعلة مع بشار الأسد، من باب نقل دمشق من الحضن العربي إلى الحضن التركي. لكن الصداقة القصيرة العمر نقلت سورية إلى الحضن الإيراني، وبقي لأردوغان أن يدعم عملياً المعارضة السورية في وجهها العسكري الإسلامي، حاصراً المعارضة السياسية المتنوّعة في منابرها التركية أو العربية أو الأوروبية. ليس المجال هنا لبحث مشكلة السياسيين المعارضين في سورية، إنما مشكلة استدارة تركيا من الأيديولوجيا إلى السياسة، ليس فقط تجاه سورية بل أيضاً تجاه الداخل التركي والإقليم.

لاحظ المراقبون أن غالبية الرأي العام التركي ارتاحت لاغتيال السفير الروسي، واعتبرته ضربة لموسكو، وذلك يعود إلى الشحن الأيديولوجي لحزب أردوغان الحاكم الذي وعد الأتراك بضم سورية، أو حلب على الأقل، من باب استعادة «شام شريف» العثماني أو المدينة التي تألم القوميون الأتراك لفقدانها، هي والموصل العراقية. إن قاتل السفير الروسي هو عيّنة من الرأي العام هذا، المتراوح بين حنين عثماني وتشنُّج «قاعدي»، والبعيد من مجريات السياسة كما تقتضيها مصالح الدولة. لقد نفّذ مولود ميرد ألطنطاش جريمته وهو في كامل زيه الأوروبي، بما يلبي أوامر منشئ تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، لكنه كان يجمع في خياله الطربوش العثماني والثوب الأفغاني، الذي صار رمزاً عالمياً لـ «القاعدي» القاتل.