سمير عطا الله

 كنت في الماضي أهوى مشاهدة الأفلام. أحيانًا سبعة منها في الأسبوع. وبحسب النقاد ومزاج التذوّق في تلك الأيام، فقد كانت معظم الأفلام أميركية أو إيطالية أو فرنسية. ومن حين إلى آخر فيلم مصري يغزو المدينة ويُخرج الرواد عن عاداتهم. ثم فجأة أطلّت في الستينات السينما الهندية. غير أن أفلامها بقيت محصورة في دور الدرجة الثانية والأفلام المُعادة، قليلة التكلفة على المشاهدين وأصحاب السينما معًا.
ذات سنة - وأقول ذات سنة وليس ذات مرة - ارتفعت فوق سينما «هوليوود» الصغيرة والقديمة، ملصقات فيلم يدعى «منغالا ابنة الهند». وظل يعرض الفيلم أسبوعًا بعد أسبوع وشهرًا بعد شهر، ثم سنة بعد سنة. وسألت مرة أحد محبّي الأفلام البسيطة عن سر الإقبال، فقال في وداعة: «الناس تذهب إلى الفيلم لكي تبكي». بعدها بقليل كنت في مزاج حزين، فقررت وأنا أمر أمام «هوليوود» بالصدفة، أن أدخل لأذرف الدمع مع عشّاق منغالا. ولم يكذب الفيلم خبرًا، فما إن انتهى حتى خرجنا جميعًا بعيون متورمة. أسى عميق على ما لقيته منغالا، الذي جاوز بكثير ما لقيته فاتن حمامة في «دعاء الكَرَوان». وكنت أعتقد أن فاتن تعتبره أبدع أفلامها إلى أن سألتها مرة عن أحب الأفلام إليها فقالت إنه «عمال التراحيل»، رواية الكبير يحيى حقّي.
كان «منغالا ابنة الهند» أول وآخر فيلم هندي أشاهده في حياتي. لم تَرُق لي المبالغة في الرومانسيات، التي كنت أظنها خطأ، مفتعلة، غير مدركٍ أن أي مبالغة يتخيلها المرء هي دون العاديّات في حياة الهند. السبب الثاني كان اللغة، إذ رغم الترجمة على الشاشة، فقد ظل الإيقاع الهندي بعيدًا عما ألِفته الأذن. وثالثًا، لأن بيروت كانت قد انتقلت وانتقلنا معها من ساحة البرج إلى شارع الحمرا، قمة الحداثة في ذلك الوقت، وغير القابل لأي تسوية مع الأفلام المصنوعة في العالم الثالث.
قبل أيام، كنت أقلّب محطات هذا العالم، فإذا بي أمام مشهد من فيلم هندي. توقفت قليلاً أتأمل الصورة. ولعلها وقفت هي أيضًا تتأملني. مرّ الوقت بطيئًا، بطيئًا، بطيئًا. البطل ذو الوجه النحاسي الملمّع، والبطلة ذات الوجه النحاسي المرصّع، يتطلعان في بعضهما بعضًا. والموسيقى تصدح على الآلات النحاسية الهندية، ورحت أنتظر أن يقول البطل أو البطلة شيئًا ما، أو أن ينفلت أحدهما بالغناء، لكن الموسيقى بقيت دون من ينجدها، والمرصعات ظلت تلمع، وكذلك الصبغة النحاسية على الوجوه. ولا أدري ماذا حدث بعد حين، إذ انطلق البطل والبطلة يتحاوران بالأغاني مثل طيور الحب التي تتناجى بالمناقير.
طالما كانت الهند عالمًا غريبًا وشديد الغموض بالنسبة إليَّ. وأعتقد أن كل ما قرأته عنها، وهو قليل، لا يعني صفحة واحدة من حياتها اليومية المثيرة للدهشة والشفقة والإعجاب والتقزز، والتساؤل حول كيف يعبر الحياة مليار إنسان، ينام الملايين منهم على الأرصفة، ولا يعثر الملايين على حمّام لأغراض كثيرة، وكيف تصبح الهند ثاني دولة في التقنية، ولا يزال ثلث سكانها أميين.
إلى اللقاء..