السيد ولد أباه

في ورقته التأطيرية المتميزة التي تقدم بها للمنتدى الثالث للسلم الذي انعقد الأسبوع المنصرم في أبوظبي، بين العلامة الشيخ «عبد الله بن بية» رئيس المنتدى ثلاث حقائق جوهرية تتعلق بفكرة الدولة الوطنية من حيث الشرعية الإسلامية:

أولا: إن الدولة المسلمة هي الدولة التي يكون أغلب سكانها من المسلمين، فهي ليست دولة عقدية بالمعنى الأيديولوجي، وإنما هي الكيان الذي يجمع بين مواطنين تجمعهم رابطة الشهادة الكافية لتحقيق الإسلام بالنسبة للمكلف.

ثانياً: إن أمور الخلافة لا ترتبط بقطعيات الدين، بل إن كل المسائل ذات الصِّلة بالإمامة هي من الظنيات وفروع الشرع، ترتبط بالواقع وتتفاعل معه وينظر إليها من الزاوية المصلحية والتدبر العقلي.

ثالثاً: إن تعددية الدولة في الإسلام ليست حادثة جديدة، بل تعود إلى العصر النبوي ذاته، منبهاً -في ملاحظة مثيرة للاهتمام- إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر النجاشي وهو صحابي على الاستقلال بدولته التي لم تكن داخلة في نطاق دولة المدينة. وقد استمر هذا التعدد في الكيان السياسي للأمة بعد سنوات الفتح الأولى (في العصر العباسي)، بحيث يمكن القول إن نموذج «الخلافة» لم يستطع تاريخياً احتضان كامل بلدان الإسلام، مؤكداً أن توحيد الناس اليوم بالقوة مستحيل ومفسدة ومخالف لمبدأ المصلحة.

ولا شك أن هذه التحديدات الهامة ضرورية اليوم بالنسبة للمجتمعات المسلمة التي دخلت في عدة ساحات ملتهبة في صراع دموي مع الدولة بتأثير مجموعات متطرفة نقلت الصراع السلمي الطبيعي من دائرة الحركية الاجتماعية إلى صراع عنيف حول شرعية البناء السياسي كله، وكأن الدولة الإسلامية ليست دولة المجتمع الذي تتشكل منه.

إن مصدر هذا المأزق كما أراه هو في اختزال نموذج الدولة الوطنية الحديثة في إحدى صيغ إدارتها لمنزلة الدين في الشأن العمومي، بما يعني النظر إلى هذه الدولة باعتبارها دولة علمانية لا دينية، دون الانتباه إلى أن علاقة الدولة الوطنية بالدين معقدة وليس من الصحيح أنها في جوهرها متصادمة مع الدين في بنياته المرجعية والعملية العميقة.

وللتأكد من هذه الحقيقة، يتعين الرجوع إلى النصوص والمفاهيم التأسيسية الكبرى للدولة الوطنية الحديثة، وإلى تجربتها التاريخية في حقول نشأتها في أوروبا. إن ما يميز هذا النموذج عن الدولة الإمبراطورية الوسيطة (التي تنتمي إليها دولة الخلافة الإسلامية) هو السمة المركزية للسلطة المستندة لوظيفتها القانونية الكلية، وهو ما تعبر عنه مقولة «السيادة» المنقولة من الحقل اللاهوتي إلى الحقل السياسي بكل محدداتها (الوحدة والإطلاق والديمومة). فالدولة الحديثة هي الدولة التي تتمتع بكل السلطات المؤسسية التي تحددها معايير قانونية كلية تنظم السلطة وتمنع التحكم الانفرادي وتخضع تدبير شؤون المجتمع للأساليب العقلانية وفق نظام بيروقراطي إداري لضبط الشأن العمومي. بهذا المعنى لا يمكن أن نقول بمماهاة هذه الدولة والآليات القانونية لضبط الحقل الديني التي هي شديدة التنوع بحسب السياقات التاريخية والمجتمعية. فالعامل الديني يدخل من هذا المنظور في اعتبارين أساسيين هما: واقع التعددية الدينية والفكرية الذي عرفته المجتمعات الأوروبية بعد حركة الإصلاح الديني في القرن الـ16 التي فرضت على الدولة نمطاً من الحياد إزاء الشرائع المتنوعة ضماناً للسلم الأهلي، وتركز سلطات الدولة الذي انتزع من الكنيسة جانباً وافراً من قوتها المجتمعية.

ولذا فما يطلق عليه علمانية الدولة الحديثة في الغرب هو في الحقيقة منظومة واسعة لها ثابتان وحيدان هما كما صاغهما الفيلسوف الكندي «تشارلز تايلور»: احترام المساواة الأخلاقية بين الأفراد، وحماية حرية الاعتقاد والممارسة الدينية. ولقد توزعت هذه المنظومة إلى نموذجين كبيرين: نموذج جمهوري يذهب إلى منح الدولة مسؤولية تحرير الأفراد والسعي لبناء هوية مشتركة (النموذج الفرنسي)، ونموذج ليبرالي تعددي ينظم التعددية الدينية ويحميها بصفتها من حقوق الأفراد دون تدخل من الدولة التي قد تكون راعية للمؤسسة الدينية في جوانبها المجتمعية وتقاليدها الثقافية (النموذج الأنغلوساكسوني).

وإذا كانت الدول الوطنية الليبرالية الحديثة تتفق في فكرة العقل العمومي المحايد دينياً، فإن مقومات هذا العقل العمومي تستند في مرجعيتها المعيارية لخلفيات دينية تشترك فيها كل الأديان التوحيدية، بما فيها الإسلام، وهي: الطابع البشري المصلحي للسلطة السياسية، وحرية الوعي والاعتقاد والكرامة الإنسانية والمساواة الاجتماعية.

ومن هنا يمكن القول إن ما يطلق عليه مسار علمنة الدولة لم يكن قطيعة مع الدين وإنما هو ترجمة للمضامين القيمية الدينية بلغة العقل العمومي، بالرجوع إلى الثوابت المقصدية الكبرى لديانة التوحيد التي قال الإمام الشاطبي إنها مشتركة بين الملل، ولذا فلا معنى للنقاش حول شرعيتها الدينية.