موسى برهومة

لا شماتة في الموت، حتى لو أنّ القتلى كانوا يرغبون في عزف الموسيقى على جثث الأطفال والمباني المهدّمة. سيكون على الإنسان «العاقل» في الزمن المجنون ألا يفرح، لأنّ طائرة روسية تضمّ عسكريين وقادة وموسيقيين تحطّمت قرب سواحل سوتشي في البحر الأسود، فقضى إثنان وتسعون شخصاً على متنها.

ربما الشماتة تذهب إلى الموسيقى، فقد أفادت الأنباء بأنّ من بين ضحايا الطائرة ستين عازفاً وفنّاناً من فرقة الكسندروف الموسيقية التي كانت تعتزم إحياء حفلات رأس السنة في «سورية المحرّرة»، وربما يبعث هذا أبعد من الشماتة، ولنسمّه القهر!

ولأنّ العالم أضحى بلا قلب، فلنا أن تخيل المشهد الفانتازي بكل عبثيّته، فالموتى لا يجدون في حلب من يدفنهم، لأنّ الأحياء القادرين على فعل ذلك ماتوا، أو أضحوا جرحى ومفقودين، وأما خارج المدينة وفي ريفها وفي سائر المدن السورية، فثمة حزن باتساع الأكوان، بعد أن نفد الهواء الطلق الصالح لحفلات الباربكيو، وحلّ دخان الحرائق والجثث.

الموسيقيون المرصّعون بأوسمتهم التي خاضوها من دون حروب، جاؤوا لا ليضمّدوا جراحات الأطفال، ويَحنوا على أطرافهم المبتورة، بل جاؤوا (وربما سيجيء بدلاؤهم!) للاحتفال بالنصر، واحتساء الفودكا في قاعدة حميميم جنوب شرقي اللاذقية التي تنطلق منها الطائرات الروسية لتنفيذ ضربات دعماً لنظام بشار الأسد.

مشهد صعب وثقيل، فهو يمنع الإنسان من الفرح، لأنّ جنوداً ابتلعهم البحر قبل أن يحتفلوا بحياة الطغاة والقَتَلة. ومن جانب آخر فإنّ الأمر أشد تعقيداً، حيث تختلط المشاعر وتضطرب، فلا يجد المرء تسويغاً إلا بردّ الأشياء إلى جـذرها البدائـي: ما كان لهذه الحرب أن تكون!

وتستدرج الأفكار نفسها بنفسها. فالحرب لم تكن إلا لأنّ الطغاة أرادوها كذلك، لأنّ السلمية التي صبغت التحركات الأولى في سورية جعلت نظام الطغيان في دمشق يرتعب، وأصابته بالعته، فقرّر عسكرَتها كي يتمكن من القضاء عليها.

ولو أنّ الحرب كانت وصارت وتصاعد أوارها، وهذا ما حدث حقاً، فما دخل الروس وشذّاذ الآفاق والإيرانيين وميليشياتهم التي حملت أزيد من أربعين راية. ولماذا انعقد لسان «الأسرة الدولية» أمام الموت الزؤام الذي يجعل التعاطف الإنساني الكوني طرفة ساذجة، وخوارَ ثيران؟

هل أظلمت الدنيا، فأعتم نور الأخلاق حتى لم تعد مأساة لعلها الأشدّ والأعنف والأكثر وحشية في التاريخ المعاصر، تستحق التعاطف، أو على الأقل أن يتم مراعاة شعور الضحية، وهي تبحث عن لفافة قماش كي تضمّد روحها المتشظية، بعدما أغارت على قلبها طائرة روسية كانت تبحث عن «إرهابيين» فلم تجد سوى أطفال، وملابس تداعب، على سطح منخفض، شمساً خجولة. وقد رأى الطيّار ورفقاؤه المشهد ناصعاً، ومع ذلك ضغطوا على الزناد!

فقدت الموسيقى ستين عازفاً ماهراً لو لم يتلقوا أوامر عسكرية صارمة لكانوا يضيئون الساحة الحمراء في موسكو بمعزوفاتهم العريقة التي يقدمونها منذ أن أسس الفرقة عام 1928ألكسندر فاسيليفيتش الكسندروف، وهي فرقة الكورال الرسمية للقوات المسلحة الروسية. وكان الكسندروف ألف، أيضاً، موسيقى النشيد الوطني للاتحاد السوفياتي الذي يرد في أحد مقاطعه ذكرٌ لـ «أشعة شمس الحرية (التي) أسعدتنا وسط العواصف».

ومن مفارقات الحادث أنّ الطائرة المحطّمة لم تضم وحسب هؤلاء الموسيقيين وبعض الصحافيين والقادة العسكريين، بل كان على متنها اليزافيتا غلينكا، المعروفة باسم دكتورة ليزا، المدير التنفيذي لمؤسسة «فير أيد» الخيرية، وأول فائزة بجائزة الدولة الروسية لإنجازاتها في مجال حقوق الإنسان.

هل قلنا «حقوق الإنسان»؟!


* كاتب وأكاديمي أردني